Saturday, February 23, 2013

شيــشة ديــجافو و رقصة تنــورة...قصة قصيرة








"إكبري عشرين عاماً.. ثم عودي..
إن هذا الحب لا يرضي ضميري
حاجز العمر خطيرٌ.. وأنا
أتحاشى حاجز العمر الخطير..
نحن عصران.. فلا تستعجلي
القفز، يا زنبقتي، فوق العصور..
أنت في أول سطر في الهوى
وأنا أصبحت في السطر الأخير."


نزار قباني




لقد حق أن تسحر الكائنات     وتستل آهاتها الجاثمة
فأوتارها شعرك العسجدي     و أنت الموقعة الباسمة
رأى النهر مصرع ملاحه     بعينيك أيتها الظالمة


بدر شاكر السياب





هو وهي..كلمتان تبدا بهما كل قصة حب وكل قصيدة شعر وكل نهاية !
أمن "هو" بكل المستحيلات ولذلك أمنت به المستحيلات..أمن بالظواهر والأساطير والعجائب فأمنت به ومنحته جزء من قوتها وعنفوانها..أمن بأودسيوس وأهوال رحلته لكي يعود الي "بنلوب" في الأوديسة..فمنحه هوميروس نفحة من أهوال الرحلة..فعاش عذاب قهر الحب..

في مساء عاشق كما يكون مساء "هو" كل ليلة ..مر علي احدي المقاهي في طريقه ثم جلس وطلب ما لم يعتاد علي طلبه .."حجر شيشة" !!
لم يسمع في تلك اللحظة الا اغنية "محمد العزبي"  "بهية"..وبعض صياح الحاضرين وطرقعة "الدومينو" علي المناضد المجاورة..
لم تكن رائحة الدخان هي ما يعشق أو أحد الأنفاس المحترقة هي ما يصبو اليه فهو اعتاد علي الدخان في حرائق غابات قلبه منذ أمد بعيد.

هو : واحد شيشة يا صلاح

صلاح : شيشة ؟ من امتي الكلام ده..

هو : لكل شئ بداية..

عندما مر بتجربته الاولي والأخيرة ايضا كان في ريعان شبابه لم يكن يشغله في الدنيا الا الحب و"هي"..كاد يوصل به الوجد الي بيت قيس حين قال :

ولو خلط السم الزعاف بريقها ..........تمصصت منه نهلة ورويت


لم يبدأ تلك التجربة الا لخاطر أتاه في المساء.."ديجا فو"..يشعر بأن اللحظة التي سيعيشها الأن عاشها أكثر من مرة في حياته..ولهذا طلب الشيشة ..
ولكن أي جنون هذا ؟ كيف تكون للشيشة وللدخان علاقة بالدي جا فو..لم يعرف في البداية ولم يروي شغفه إلا حين مرت امامه "هي"

بدا المشهد كأنما لوحة "المعاناة الصامتة" لجبران ..دخان يتراقص أمام عينيه وحورية تتقمص دور الدخان لتنهل من عبير أنفاس قلبه المتيم..
كان يراها حين تدخل الي المشهد كأنما يسمع فجاة بداية اغنية
Edith Piaf - La Foule

كانما هي الأميرة وهو مصارع تفتح أمامه بوابة الأسود في الكوليزيوم..ولا يهمه إلا نظرة عطف من غيداء خياله "هي"
لم يعرف أهي تتراقص في خطوتها أم الدخان هو الذي يتراقص أم أن قلبه هو من يتراقص نشوة علي أطراف ثغرها المعسول..
كانت مزدحمة بالأنوثة ومنتشية في خدر الحسن بذاتها ..
تستتر بالإثارة وتتعفف بفيض نور الجمال..
كان الكون علي طرف ردنها انفجار عظيم وقعقعة قصائد..
كانت بداية العبير ونهاية الوصف والتعبير..
كانت الحلم والعلم..
كان الحلم في ملامحها كانه شهد ساقط من سماء درية..
وكان العلم في تفاصيل جسدها كأنما "يحرك الاشياء عن بعد"..أو "يحرك قلوب العشاق عن بعد" !
كانما كانت في عصر الثورة "ناشطة جمال" لا "ناشطة سياسية"
وكأنما كانت أول ثورة قبل ان يعيش هو أي ثورة .


صوفية..
لحظة صوفية استمالها القلب فمالت..واستعطفتها الدمعة فسالت..
وكأنما انقلب المشهد لحظة صوفية واحترق المسرح بأول حجر للشيشة..
ليري نفسه في مشهد حب جديد بشكل جديد..قلت لكم عاش اللحظة من قبل وها هو يعيشها بشكل أخر في نفس اللحظة..


اللحظة الصوفية :

"حي..حي..الله حي"

رأي نفسه بجلباب أبيض في مشهد حضرة صوفية وسمع نشيد حب الهي لرابعة العدوية ينشده الجالسون :

وليت الذي بيني وبينك عامر *..وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين .. وكل الذي فوق التراب تراب  


وكأن نفس المشهد يعاد من جديد..
كان كل العشاق يقولون جملتهم الخالدة "حاسس اني شفتك قبل كده"
وهذا ما تحقق ل "هو"..لقد عاش فعلا تلك اللحظة منذ زمن..لحظة صوفية..لم يعرف اذا كان هو او احدي تقمصاته وخيالاته ولكنه يعيشها الأن في خياله في نفس وقت جلوسه علي المقهي..

لم يكن أمامه الا ان يردد مثلهم ويقول "حي.."
ورأي الجميع يهزون في رؤوسهم في حالة عشق الهي وولع واشتياق لنوره وفيضه..

تمتزج الوان طيفها مع الوان التنورة لرجل يدور بالأرض ولا تدور الأرض به..توقف زمنه ومكانه مثلي تماما
انا امام عينيها راقص تنورة لا يتعب من الحركة ولكن من نشوة الجمال..
تخلية قبل التحلية..صوفية عاشها في لحظة..
وهو ايضا عاش التخلية قبل التحلية..ولكنه حلي قلبه بالله ثم "هي"


كانوا يرددون اناشيدهم بينما يردد قلبه نشيد من كلمات الصوفي  "السهروردي المقتول"  يقول :

وَا رَحمةً للعاشِقينَ تَكلّفوا     ستر المَحبّةِ وَالهَوى فَضّاحُ
بِالسرِّ إِن باحوا تُباحُ دِماؤُهم     وَكَذا دِماءُ العاشِقينَ تُباحُ


كان يردد الابيات وهو يراها من خلف الحجب..
سحابة دخان بخور في حضرة حب الهي ويري من خلفها عيناها تطل كانها اطلالة لحظ روح تخرج من انات جسد ..
كان الحسن في عينيها صوفي جدا بل راهب في محراب..
وكأن كل البخور الذي هام في المكان أخرج من طيات نفسه كهرمان الحب وعقيقه..
وكأنه أصبح مبخرة لحسنها ونسر أسطوري يغطي بجناحيه عينيها غيرة وخوفا..


ألم يري هذا المشهد من قبل ؟
هل يعيشه الأن أم ان المقهي هي لحظته الحالية..يكاد الجنون يقتله..هل هو الدي جا فو ؟
أي لحظة هي الحقيقة وأي لحظة هي التي يتخيلها ؟؟ لا يعرف الأن..فقد ماجت وهاجت ثائرة اللحظات في خافقه كأنما امتزجت بروعه وكيانه..

هل هو صوفي عاشق ؟ أم شاب يجلس علي مقهي ويراها تمر أمامه الأن ؟
هل هي السبب ؟
هل هناك تشابه غير التشابه اللفظي بين "لحظها" و "لحظته" ؟
علاقة بين "جسدها" و "التجسيد" ؟
"حضورها" و "حضرته" ؟


لم يسأل نفسه كثيرا ولكنه عاد فجأة بذهنه الي لحظته علي المقهي وعرف ان لحظته الصوفية ما هي الا لحظة عشها في زمن أخر ؟
زمن أخر ؟؟ أي زمن أخر ؟ هل يمر ب ديجا فو ام استنساخ روحه علي مر أزمنة وأكوان ؟؟

مرت بجوار المقهي ولم تري "السلام" في نفسه الان ولكنه رأي فيها سلامه وتسليمه وسلمه..
لم تري فيه الموت ولكنه دائما يراها الحياة..
لم تري فيه "الضعف" لأن دائما ما يرتقي بقوتها..


ولكن هل عاد لخياله مرة أخري ؟
الان يعيش لحظة أخري غير لحظته الصوفية..انه يعيش لحظة حرب..
أي حرب ؟ لا يعرف لا يري الا الدبابات وخفق الموت ..
لا يري الا بنايات تحترق وهي في الداخل تستنجد "انجدوني"
هرول سريعا الي صوتها كانما يحن اللحن الي الكمان..
كان المشهد ضبابيا جدا ..لم يري الا عينيها من خلف سحابة دخان ..نعم هي مرة أخري وبالكاد يراها..


هي مرة أخري في تلك المرة في ساحة حرب في مدينة تحترق..
يراها من خلف سحب الدخان كما دخان الشيشة ودخان البخور الصوفي ..
ياللقدر !! هل يعيش حياته ولحظته الثالثة وكل ما يجمع الثلاث لحظات دخان وعينيها ؟؟


كان القصف في الحرب عنيف جدا ولكن عينيها كانت بالنسبة له "حرب الدمار الشامل"..او "الحرب الجمالية الثالثة"..
حملها سريعا علي يديه وهرول خارج بناية تحترق ولكن الحريق مازال مستعرا في كل عرائس خياله..
وضعها في مكان أمن وبعيد عن القصف والعنف وسألها " إسمك ايه ؟ "
كانت مرتعدة الفرائص ولم تستطع الرد عليه ولكنها اشارت الي "الدخان"..

إنه الدخان..لا أعرف هل كانت تشيري اليه في تلك الحرب اني يعود الي مشهد المقهي ام مشهد الصوفية ؟
وفجأة عاد هو في نفس اللحظة الي المقهي ها هو مرة أخري اعود لمشهدي الأصلي في "ديجافو الشيشة" !!



جلس في المقهي عشر ساعات يجمع الأوراق يعض في أصابعه..يحاول الربط بين المشاهد الثالثة والدخان..
وفجأة قال "يالخداع الحب وجبروته"
لقد عرف الحقيقة..انه ليس ديجافو الشيشة انه ديجافو الحب..
لقد جمع الحب بين مشهد "المقهي" او "الحياة...ومشهد الصوفية ومشهد "الحرب" او "الموت
نعم لقد جمع له في لحظة واحدة ثلاثة مشتهد وكانه يعرفه بنفسه مرة اخري..
انه يقول له "انا الثلاثة مشاهد
انا الحياة والموت والتصوف..
إنه الحب وعجائب قدرته وغرائب صنعته..
انه نور القلب الذي شق "الدخان" ليصل الي عينيها ..
الأن عرف سر مشهد الدخان..ان الدخان هو الوهم بينما عينيها هي الحقيقة..
حقيقة الحياة والموت وصوفية قلبه..

ثم صاح بصوته "اه يالقوتك يالقوتك.."


بينما نظر له البعض من مرتادي المقهي وقال أحدهم لصديقه "هو الراجل صاحب القهوة ده بقاله عشر ساعات مشغل العزبي ليه هو مش العزبي ده مات قريب ؟"
قال هو له "ربما مات..ولكن البحث عن عيون بهية مازال جاريا" !!