"لست منزعجا من كذبك علي..ولكني منزعج من اني لن أصدقك بعد الأن" فريدريك نيتشة
في غرفة ضيقة من داخل احدي المعتقلات ظهر الشيب علي شعر "راضي" كما لجج السحب..لم تكن للغرفة تفاصيل أخري الا الخيانة ولم يكن لها أنات اخري إلا أنة المعتقلين الأخرين ..
كانت الغرفة مكتظة بأوجاع الناس كما كانت مكتظة بأحلام منتحرة علي كل سرير فيها..لا تسمع فيها سوي صوت "الكرباج" وضحكات الشر..
ظل راضي يكتب ويسطر بقطعة معدن في كل مكان فوق الجدران جملته التي طالما كتبها منذ ان دخل المعتقل "للسلطة أظافر واول من تخدشه الواثق فيها"..
لم ينقذ راضي من سجنه الذي قضاه بين معذبين تارة وبين حبس انفرادي تارة أخري الا ثورة جديدة..أعوام مضت ما بين القهر وما بين الوعد ولم يري فيها راضي أي حلم تحقق أو وطن يزدهر..
ماتت السنابل علي كل أرض ولم يتحرك الرئيس ..انتشر الظلم ولم يلقي المظلومون الا سيوف الرئيس وجلادين الرئيس..
سقطت كل وعود السلطان وكل امال الواثق فيه ..
خرج راضي مهرولا من سجنه في وسط صيحات الناس "ثورررة"..كان العام 2032 وكانت ثورة جديدة وكانها نفس الاحداث ونفس القصة تعاد من جديد..
خرج راضي الي بيته وقابله أبنائه بلهفة واشتياق ..تغيرت هيئتهم لم يراهم منذ زمن طويل ظل يحتضنهم الي ان سقطت دموعه علي اكتافهم وقال له ابنه : وحشتني يا بابا ..كان لازم نقوم بثورة عشانك وعشان كل المظلومين ..
راضي "باكيا" : لازم ثورة عشان حق كل واحد اتظلم من رئيس جديد كان معاه حلم بلدنا الجديد لكن للاسف قتل الحلم ومخلاش الا اليأس ..
الإبن : ثقتك يا والدي كانت من غير حدود..قولت زمان ان الرئيس الجديد جاي ومعاه الحلم الاخضر قولتلك واثق فيه يا والدي قولت مافيش غيره هينقذ البلد..ومكانش في الا ثورة جديدة علي الظلم والظالمين
راضي: الثقة في الحاكم أكبر خدعة يا ابني ..ما تثقش في حد الا اما تشوف أي نقطة مضيئة صنعها او حلم حققه لبلد بحالها ..
الإبن: لكن ازاي اتسجنت يا والدي بعد كل اللي عملته عشانه..انت كل معاه في كل مكان وكنت بتقول للناس هو ده علاج البلد وهو ده اللي معاه الخير والعدل للبلد..ازاي انتهي الحال بيك للسجن والتعذيب ؟
راضي: اااه يا ابني دي قصة طويلة ..المهم دلوقتي ننزل مع الثوار دول ونرجع البلد لواحد يحاول ياخد ايدها من جديد للنور وللكرامة..
الابن: لكن احكيلي ازاي ده حصل سنين وانا نفسي اعرف ازاي الملاك اتقلب شيطان وازاي محقق الأحلام اتقلب اكبر كابوس..؟
بدأ راضي في سرد وقائع قصته مع الرئيس الذي ضحي بعمره من أجل ان يحكم البلد..قصة الغدر والخديعة والمراهنة علي حلم امة..قصة الثقة العمياء التي نشبت مخالبها في صدر راضي ..وبدا في سرد تفاصيل أخر لقاء بينه وبين الرئيس في قصره ..الرئيس الذي طالما حكي عنه راضي الحكايات وقال لكل اهله وعشيرته انه الحلم الوردي ومستقبل البلد..
تعود تفاصيل القصة لأعوام مضت منذ ان تولي الرئيس الحكم بعد ثورة يناير :
الرئيس: اتفضل يا راضي
راضي: كويس انك طلبت مقابلتي ..كويس انك لسه تعرفني أصلا..
الرئيس: ليه يا راضي..انا زعلتك في حاجة..؟ انت اللي مزعلني قوي..
راضي: انا بقول الحق ومبنطقش غير الحق علي كل صفحة وفي كل جريدة..الحق اللي عينيك عميت عنه بعد ما كانت طول النهار تقول الاحاديث والعبارات الرنانة ..خطيب كبير لكن من غير حلم..
الرئيس: انا قولت هاحاول اصنع الحلم ..صناعة الحلم والهدف مش سهلة يا راضي في وطن منهوبة كل حاجة فيه..
راضي: منهوبة؟ ما انت قولت هترجعها ؟ وبعدين الخير اللي انت عايش فيه ده كله منين والبلد منهوبة ؟ ومين اللي لسه ناهبها لحد دلوقتي ؟ مش كفاية حكمك اللي استمر كل السنين دي بالتزوير واللعب علي وتر القانون ؟
الرئيس: القانون مبيتلعبش بيه يا راضي..القانون بيحكم ويسود..
راضي: بيحكم ويسود علي الغلابة ولكن شريعتك تمشي علي غابة..القانون تاج في بلد عارفة الحق والعدالة ولكنه طاعون في بلد قانونها إنت..وكل حاجة فيها انت وحاشيتك
الرئيس: يمكن حاشيتي ليهم اخطاء ولكن انا ماليش انا بحاول ادفع البلد للإمام..
راضي: إختيارك خطيئة مش بس خطأ..حاشيتك جزء منك وكل خطأ ليهم هو خطأ ليك في الأساس ..
الرئيس: يخلق من ضهر العالم فاسد..
راضي: ودي جملة لتبرير الفساد ولا مكافحته ؟
الرئيس: انت اللي اخترتني وانا كل اللي بعمله اني بنال شرف المحاولة
راضي: المحاولة بتبقي شرف لأهل العزيمة والنية الصالحة لكن لمبادئك المزيفة تقدر تقول "عار المحاولة"
الرئيس: عمر المحاولة ما كانت عار
راضي: ده لو كانت محاولة مش خداع وتزييف ..المحاولة أولها إصرار مش تستر..أولها قدرة مش رغبة جافة..أولها قدرة مش رعشة إيد..
الرئيس: انت ليه اخترتني يا راضي زمان ؟
راضي: للأسف صدقت كلامك وخطبك وبرنامجك اللي لو كنا مشينا علي نصه بس كان زماننا بلد بتجربة فريدة وجديدة في العالم..صدقت طموحك المشروع ومكونتش اعرف انه مشروع إتجار بالوطن..
صدقت ضربة إيدك علي المنصة اللي كان فيها إصرار غريب وارادة حديدية..صدقت الأمل في عينيك وحسن نواياك ومكونشت اعرف انها مش نية دي مجرد عزف علي ناي صوته حلو ونهايته حزينة..
الرئيس: انا رئيس من حقي اعيش مرتاح برضه مش معني كده اني سرقت ونهبت زي ما انت بتقول علي كل صفحات الجرايد ومخلي كل الصحفيين يكتبوا ان راضي أكبر داعم لحملة الرئيس قلب علي الرئيس
راضي: تعيش مرتاح اما تريح شعبك وتريح أفقر فقير فيه..ازاي ترتاح والناس ليه مش لاقية المية ولا عارفين يزرعوا في بلاد وبلاد ..ازاي تعيش في قصرك وانت كانت كل صورك مع الغلابة اللي ضحكت عليهم وقولتلهم حاسس بيكم وبمشاكلكم..دلوقتي ايه اكبر مشاكلك ؟ لون سجادة قصرك؟ ولا مكان التمثال اللي عايز تعمله لنفسك في الميادين ؟
الرئيس : للدرجة دي شايفني شيطان ؟
راضي : الشيطان كل محاولاته للإغواء..انما انت غويت الناس وبعدين عايز تهديهم لطريقك او تبين ليهم ان طريقك هو الهداية..طريق الشيطان بنكون ساعات عارفين انه غلط وبنمشي فيه انما انت بتقنعنا ان طريقك هو الصح مع انه كله شوك وتزييف..
الرئيس : عايز ايه يا راضي دلوقتي ؟
راضي: عايزك تتنحي وكفاية تمديد لفترتك بالتزوير والغش ..
الرئيس: الناس هي اللي اخترتني من جديد..
راضي: كل ديكتاتور بيتكلم عن اختيار الناس وكانه وسام علي صدره مش جميل لازم يرده ليهم !
الرئيس : واللي عملته مش كفاية ؟
راضي: واضح ان حاشيتك مش فارقة كتير عن الحاشية السابقة ..ايه اللي كفاية افتح شباك قصرك وشوف الجعانين في كل مكان والبلد حالها واقف..الناس مش لاقية اللقمة وانت بيجيلك ورق ورق عن ان كله تمام يا افندم زي اللي قبلك بالظبط ..ايه يا اخي مش خايف من ثورة جديدة ؟
الرئيس : الثورة علي الديكتاتور انما انا مش ديكتاتور انا دايما بلعب دور العاجز اللي بيحاول انما مش بقهر حد بالعكس كله بيعبر ومحدش بيتحبس في عهدي..
راضي: العاجز لازم يسقط زي الدكتاتور بالظبط لان عجزه هيخلق الف ديكتاتور من تحته..وخصوصا طالما تمثيلية ولعبة زي ما انت بتقول..
الرئيس: خش يا سعيد
ودخل الي القاعة فورا مجموعة من حاشية الرئيس وجنوده وحرسه وقال احدهم : مش هيكون نقطة سوداء في تاريخ سعادتك او قمع حريات بالعكس احنا هنحبسه بتهمة تانية خالص احنا مجهزينها ومجهزين الفضيحة الكبيرة ليه ومن بكرة هتلاقيها علي الجرايد..
الرئيس: كويس كده يلا شيلوه من هنا انا مش ناقص خطبه دي ..
راضي: هتحبسني انا بعد ما وصلتك للناس ووصلتك للكرسي اللي انت قاعد عليه ؟..انت مش عارف طريقك وقولتلك طريقك هو الناس..وأخرة طريقك هو الناس واسمع كلمتي دي لحد ما هتقع من علي كرسيك يا ظالم..
الرئيس: يلا خدوه من هنا
راضي "يصيح" : طريقك هو الناس وأخرة طريقك هو الناس..
وأثناء الثورة :
الإبن : يا يا بابا ده انسان ظالم وجاحد فعلا الرئيس بيخون اقرب الناس ليه..انت كانت علاقتك بيه الكل بيتكلم عنها وعارفين انك انت اللي عملته وهديته لطريق الناس ..
راضي: لكن دلوقتي لازم ازعق واقول "الشعب يريد اسقاط النظام" قولتها في ثورة يناير وهاقولها دلوقتي واحنا في 2032 وهافضل اقولها لحد ما البلد تقف علي رجليها..
وبعد مرور سنتين :
الابن : بابا تعالي شوف الرئيس بيحلف القسم..
راضي: مش عايز اشوف واحد بيقسم..انا عايز اشوف حاكم بيفصل قسمة البلد ونصيبها..مش عايز قسم انا عايز قسمة..
الإبن: ممكن ده يا بابا يحقق حلمنا
راضي: مافيش حاكم بيحقق الحلم..احنا اللي ممكن نعدل مسار حلمنا بإيدنا..أخر نصيحة يا ابني اوعي تصدق حاكم قبل ما يحكم ولو حتي تعرف تاريخه..التاريخ ماضي انما الحلم مستقبل ..احنا شوفنا ماضيه لكن معندناش بلورة سحرية نعرف ايه مستقبلنا معاه..
صدق حاكمك لكن اوعي تثق فيه..شجعه لكن متطمعوش..احكي عنه لكن متبقاش حكايات الف ليلة وليلة..متقولش هو الأمل ولكن قول أنا عندي امل فيه..
اياك والثقة يا ابني لانها ضيعتنا سنين طويلة..ومش عايزين ندخل تاني في الدوامة بتاعتها..
وأقسم الرئيس ومازال الشعب في إنتظار القسمة !