سلمي فتاة في العشرينات ..بريئة ليس كعادة النساء ..عميقة الأفكار سطحية التجارب..عيناها المخضرة كأشجار نيسان دائما حين تطل علي الدنيا تسأل "هل انشق القمر من جمالي؟" !!
غرفتها مليئة بالحزن وبالنظام وكأنها تطبق قول ماركيز حين قال ان غرفته منظمة والفوضي بداخله..جلست تتأمل شاشة الكمبيوتر في احدي ليالي البرد والحب ولكن ماذا تفعل ايها القدر ؟؟ ما هذه البقع الدموية؟؟ أي شئ تخبأه لسلمي ابنة النور وحسب وجاه وسلطان الحسن والجمال..!!
اللون الأحمر في كل مكان..تجمدت سلمي في مكانها كريشة في يد فنان في لحظة استلهام..وقفت حائرة ما هذا اللون الاحمر؟؟ هل تلك البقعة بقعة دماء ؟؟ تحسست جسدها تحسست يديها ..لا يوجد اثر لجرح..هي لا تعرف للجرح مكان الا مخيم قلبها الشتوي ..فمن اين اتت هذه البقعة المحيرة ؟؟
مدت يدها المرتعشة وكانها تتذوق تلك النقطة الحمراء..ياالله انها دماء..ما الذي حدث..ما هذا المشهد المتسلط علي نبرة قدرها الهادئ دائما..لم تتعود علي المفاجأة المزعجة والقاتلة للاحلام..فما الذي تخبأه ايها القدر ؟؟
خرجت تجري من غرفتها ..تشد ستائر الصالة ويالصاعقة ما رأت..أي جحيم هذا؟؟ الشمس حمراء بلون الدماء.. الدنيا باللون الأحمر ..قالت "ربي انجدني من هذا اليوم العاصف..ربي هب لي من لدنك رحمة..ربي اخرجني من هذا الكابوس" تجمدت عروقها كما تتجمد احلام العاشق في لحظة الوداع..وقفت تنظر من الشباك علي حال الدنيا الحمراء الغريبة..ثم خرجت بيأس الي غرفتها مرة اخري..وكانها مقهورة من سلطة وديكتاتورية الدهشة..
وضعت ملابسها علي جسدها النصف عاري في لحظات وهبطت علي درج البيت ولم تقابل احد حتي الأن..
"عم سعيد..يا عم سعيد" صاحت سلمي تستنجد ببواب العمارة ..
لا يوجد رد ..لا يوجد احد..ذهبت لجارتها تضغط جرس الشقة بلا جدوي ولا مجيب..هل هي في حلم ام في يوم قيامة؟؟ وان كان يوم قيامة فلماذا هي وحدها من تعيش واختفي الباقون ؟؟
ربما لا يراها احد او هي لا تراهم كما في الافلام والقصص القصيرة؟؟ هل هذا ممكن ؟؟ ولكن ما معني هذا الدم ؟؟
اخيرا وجدت انسانة..ما اجمل طعم الانسانية مرة اخري بعد ان فقدت الامل في وجود اي انسان يحدثها..وضعت يدها علي ظهرها وقالت "من انتي واين اختفي الباقون؟؟"
التفتت اليها في التفاتة مرعبة صعقت لها كالطير علي سلك كهرباء عار وقالت "عرافتك أمنة في خدمتك "
عرافة؟؟ ما هذا الخلل الكوني الكامل؟؟ لم يبقي في الشوارع سوي عرافة ؟؟ اين اختفي بقية الناس ؟؟
قالت العرافة : اعطيني كفك يا ابنتي ..
استسلمت سلمي لطلب السيدة ولكنها سحبت يدها مسرعة كالبرق حينما وجدت الدماء تسيل من بين عينيها ويدها التي تمسك بها يد سلمي ..لم تستطع الافلات من قبضتها ..
خط العمر علي كف يديها امتلئ بالدماء ..التصقت به الدماء اللزجة بشكل مفزع..حاولت بقوة اكبر وخرجت من المكان هاربة..انه يوم الهروب الكبير..لا تعرف من اي شئ تفر سلمي ولكنها تفر من الاماكن ومن
العرافة ومن بيتها ومن الشوارع..اصعب انواع الفرار هو ان تفر من نفسك الي حضن عالم خال من البشر والحب والايمان..واجمل انواع الفرار الفرار الي الحب والي الله..
شعرت بالجوع ولكن كل الطعام علي الارفف تغطيه الدماء..كل المحلات خالية وخاوية علي عروشها ولا تعرف ماذا تاكل ..انها منهكة القوي وتجري منذ ساعات تبحث عن الناس او تبحث عن حقيقة اليوم وحقيقة ولغز الدماء السائلة في كل مكان
سارت وحيدة حتي وجدت مكان يشبه المقبرة..بدات تقترب بحذر يشوبه القلق وتنظر بعينيها المرتعشتين كما ضوء الشمعة يتراقص لنسمات الليل..ووجدت احدي اللوحات مكتوب عليها "مقبرة الحب" !!
قالت لنفسها متعجبة : " مقبرة الحب؟ ان مات الحب في قلوبكم ايها البشر فانه لا يموت في قلب العالم .."
هربت من المقبرة وظلت تبكي كأنها لا تجد الان حلا سوي البكاء..حينما نصل لأعقد لحظات حياتنا واكثرها اضطرابا لا يصبح حينها الدمع اختيارا بل تصبح مدامع العين طريق موازي للحياة "
قالت لنفسها "الدموع تغسل روحي" ..الكل يبرر لنفسه ويواسيها بهذه الجملة مع ان الحزن ينهش الروح ويفت عضد الأمل مرتين تارة بالضعف وتارة بالاستسلام.
خرجت علي جانب الطريق رأت سيارة علي جانب الطريق بلا ركاب ..مقاعدها مليئة بالدماء...لزجة لا تصلح حتي مكان امن للنوم..ضحكت سلمي بهستيريا وقالت لنفسها " أمان؟؟ عن اي امان ابحث؟؟ لا يوجد غيري في هذا العالم؟؟ " لقد اكتشفت اكتشافا اضحكها وابكاها في مشهد مضحك ولكنه ضحك كالبكاء..اكتشفت سلمي ان الارض حين خلت من البشر فهذا هو قمة الامان !!
قالت "ياللعجب..انني حتي لا ابحث عن سلاح يحميني..لقد اختفي الخوف حين اختفي البشر..من سيؤذيني الأن ولا يوجد سواي؟؟ ولكن بقي الحزن حين اختفي البشر..نعم بقي الحزن وسيبقي..الوحدة تخلق الحزن وتصنعه من طينتها ومائها بشرا سويا حزينا" !!
ظلت علي حافة الطريق ..جلست بعينيها الزرقاء تنظر لصفرة الصحراء ..اللون الاصفر يختلط مع زرقة عينيها مكونا "الجنون"..مشهد اسطوري لا يستطيع ان يفهمه "سلفادور دالي" ولا ان يلحنه "موزارت"..
بقي الليل ينهش في جسدها الذي يفكر في النوم ويقاومه العقل..وما اصعب تعارض الرغبة الجسدية مع الارادة العقلية فتجد نفسك امام قرار اللاشئ..
جلست سلمي تفكر حتي صباح اليوم التالي..لم تخرج الشمس من جحرها ..فهي لم تجد القمر اصلا في اليوم السابق..اختفت كل المعالم الكونية المعروفة الا الحزن والوحدة..
حين نظرت الي يمينها بيأس وجدت كرة من نار تأتي من اول الطريق لا تخيف احدا امامها لانه لا يوجد بشرا غيرها..
استسلمت لهذا الانفجار القادم من اللامكان..وقالت "انا هنا ايها النار ..انا شهيدتك الغراء فلتختلط بدمائي ايها الجحيم العاري لتكتشف بنفسك من منا يشرب من عروق الحقيقة"
خلعت ملابسها ووقفت في انتظار لفحة النار ..تلك الكرة الملتهبة الاتية من اول الطريق..هي لا تعرف مصدرها ولا تعرف ما الذي يحدث حولها ولكنها وصلت للاستسلام..وليس بعد مرحلة الاستسلام من قرارات بعد ان يكون هو نفسه القرار الاخير..
نظرت حولها نظرة اخيرة..ولم تجد غير اثار اقدام دماء..الدماء في كل مكان..حتي لوحة الطريق مكتوب عليها "طريق الدماء 25 كيلو" !!
الدماء في كل مكان..الدماء في كل مكان..اصبحت اري من بعده الدماء في كل مكان..
هكذا قالت سلمي لي في اخر مقابلة في المستشفي وهي تحكي لي عن الانفجار الذي مات فيها زوجها وحبيبها..كانت تبكي امامي وكأنني رأيت الدماء في قصتها ..
تخيلت كل هذه القصة ومشهد سلمي وعالم الدماء حينما روت لي حكايتها وقالت انها شاهدت زوجها يتمزق لأشلاء امام عينيها ..
قالت : عارف يا معتز..كاني من ساعتها شايفة كل حاجة دم..كل اللحظات والدنيا مش شايفة فيهم الا الدم"
الطبيب" لو سمحت يا استاذ انتهي ميعاد الزيارة"
خرجت من المستشفي ..حزينا لسلمي ..اتنهد واركز حولي في كل ملامح البشر كي اتأكد انهم لا يمتلئون بالدماء..كي أتاكد ان العالم سيظل ملئ بالامان حتي مع وجود البشر وان كرة النار لن تأتي من بعيد ..
ومرت اربعة ايام ..لأفتح التلفاز واجد الخبر "انفجارا مروع راح ضحيته العشرات ومنظمة ارهابية تتبني الحادث الأليم"
ذهبت الي المستشفي مرة اخري ..قالوا ان سلمي قد فارقت الحياة بعد ان اصيبت بنوبة عصبية حادة وهي تصيح "الدماء في كل مكان دثروني دثروني" ..
وجلست في احدي الحدائق مالئا رئتي بهواء العالم النقي وقابلني احد الاطفال وقال "عمو انت ماسك الجرنان؟؟ هو ليه كل يوم الاخبار ان ناس بتموت بعض؟؟؟"
قلت له وانا اربت علي كتفه بهدوء " كي تخلد قصص مثل قصة احزان سلمي يا ولدي في تاريخ العالم" !!
لم يفهم الطفل اجابتي ولم افهمها انا نفسي..ولكني خرجت من الحديقة بعد ان قطفت زهرة وفي عالم الزهور جاء هذا الخبر
"عمل وحشي بقطع احدي زهورنا حية واقتلاعها من الجذور من مجرم من البشر مر بالحديقة" !!
No comments:
Post a Comment