لا اعرف لماذا اشعر بأن هذا الصباح لن يكون عاديا..ربما من نظرات الناس المريبة من خلف الصحف اليومية والنظارات الشمسية التي يلونون بها الدنيا باللون القاحل دون ادني سبب سوي ضوء الشمس الذهبي الرائع .
عندما انهيت فنجان قهوتي واخذت مفاتيح السيارة ظللت اعيد النظر في كل ما حولي لاعيد ترتيبه "وسواس قهري" ..نعم كان لابد ان اتحدث عن الحالة الوسواسية الغريبة في اعادة ترتيب الاشياء..احاول ان اعيد تناسق العالم المبعثر ولو علي منضدة ..ولو حتي في قلبي فقط..هذا العالم مريض بالفوضي البشرية بالرغم من التنظيم الالهي المحكم والعبقري.
عندما دخلت السيارة انتابني الفزع ..ادرت المحرك ثم نظرت اسفل قدمي لأري جزء من "سيجارة" مشتعلة..ما الذي حدث ؟؟ من الذي دخل الي السيارة قبلي ..هل هو لص ؟؟ والسيجارة مازلت مشتعلة ومازاد الطينة بلة اني سمعت اصوات تصرخ في "شنطة السيارة" وتقول : "ارجوك خرجني..الحقوووووني"
قلت لكم انه لن يكون صباحا عاديا..فالايام الاستثنائية ستعرفها من بدايتها في انعكاس القدر علي وجوه الناس..خرجت مسرعا من السيارة..قلت في سري "اعوذ بالله من الشيطان الرجيم..في ايه النهاردة؟؟"
ازداد الصراخ : "الحقووووني..ارجوك انقذني" ....ولكن..انتظروا ..انا اعرف هذا الصوت جيدا رغم ما مر من عمر هل ممكن هذا ؟؟ هل تكون هي ؟؟ وكانت المفاجأة التي جمدت كل حواسي عندما فتحت "شنطة السيارة" ووجدتها هي ..نعم انها "دينا" ..
قلت : د..د..د....ازاي؟؟ مين مكتفك كده؟؟وازاي في عربيتي انا بالذات ؟؟
دينا: انت؟؟مش معقول!! ارجوك فكني بسرعة وبعدين نتفاهم
قمت بفك وثاقها واخرجتها من شنطة السيارة الي المقعد الامامي وانا محلق في "ايفرست" ذهولي..وسألتها : ياريت تفهميني اللي حصل لان اليوم ده اغرب يوم مر في حياتي تقريبا
قالت : ااااه اشرحلك ايه ولا ايه..تقدر تقول اني مستغربة زيك تمام..بجد مش فاهمة ايه اللي بيحصلي من اول اليوم ده..كمل بس الطريق ونتكلم
تلاقت العيون فجأة وكأن الذكري تدق جدران قلبي بنبالم نظرتها الذكية القاتلة الواثقة الابدية الغريبة القريبة الحبيبة ..ولنظرتها 99 صفة احصاها قلبي من قبل في الماضي ولم يدخل الجنة !!
قالت في انوثة قاتلة : انت فاكر ايام زمان..
قلت: زمان ذاكرته اقوي..هو اللي ما بينساش حد..وبيعذب الكل..
قالت: انا عمري من يومها ما كان عندي حاضر
قلت: وانا عمري ما شوفت مستقبل
ابتسمت في رقة مميتة وقالت: انت لسه بتسمع الاغنية دي؟؟ وامسكت باصابعها الناعمة "سي دي" مكتوب عليه "سيلين ديون" ..وكانت متيقنة ان الاغنية المفضلة علي هذا السي دي ..
وبدات كلمات الاغنية تنساب الي مسامعي وخرجت دينا من فتحة سقف السيارة تستنشق نسيم الحرية وتلوح بيديها راقصة وكانت الاغنية تقول :
Got your invitation to the dance
Wear your party dress
Maybe I was just an innocent
But I confess
I never even knew the song
The orchestra was playing
See the cuties in their party clothes
Oh it's getting warm
Off the shoulder cut into the hip
Like a uniform
Did you think I'd want to tow the line
Well now the line is broken
وعندما ترقص دينا من فتحة السيارة وتداعب الرياح شعرها علي انغام هذه الاغنية تحديدا ..ثق تماما اني كنت تقريبا "اموت اكلينيكا " من شدة الوجد والغرام..
حتي الان لم افهم ما هي بداية اليوم..هي لم تشرح لي وانا ايضا لا استطيع ان اشرح لها ..ولكن قد يشرح لنا صاحب السيجارة الذي القاها داخل السيارة وهرب مسرعا..
قلت لها: ادخلي يا دينا عشان الدنيا برد قوي برة انا خايف عليكي..
قالت وهي تتحسس شعري: طول عمرك بتخاف عليا بجنون
دخلت الي السيارة مرة اخري واغلقت فتحة السقف التي فتحتها لها وفجاة رأينا رجل علي جانب الطريق يشير الينا بهلع ويقول : الحقوووني الحقووووني
قلت: ايه اليوم ده؟؟ تاني ؟؟ انا ايه اللي نزلني النهاردة
وقفت علي جانب الطريق ونظرت مستفهما من الرجل عن ما حل به..قال "في خبث واضح" : ما شوفتش سيجارتي يا استاذ ؟
قلت: انت ؟؟؟؟؟ انت صاحب السيجارة ؟؟؟؟
فر مسرعا وحاولت ان اركض ورائه لكن دون جدوي وكأنه يجري بسرعة الضوء ..وقال وهو ينظر خلفه : كمل بس الطريق..
مرة اخري نفس الجملة "كمل بس الطريق"..لقد مللت من هذا الطريق وكثرة ما عليه من حيرة وغربة ..
عدت الي السيارة لأجد دينا تتشاجر مع إمراة شبه عارية..صدرها وكانه شجرة رمان ..جمالها قد يجعل الارض تلتف حول نفسها في شكل "باقة ازهار" لتقدم نفسها اليها..ولكن كيف دخلت الي السيارة؟؟ من هذه المرأة ؟؟
قلت : دينا..ايه اللي بيحصل؟؟ مين دي وايه دخلها العربية؟؟
قالت: انت كنت فين وسايبني مع المجنونة دي
قلت: انا كنت بجري ورا الراجل اللي كتفك ورمي السيجارة في العربية
قالت: اهي دي دخلت العربية وقالت انها كانت مستنياك هنا بالظبط ..انت تعرفها ؟؟انت تعرف الاشكال دي ؟
قالت الأخري: احترمي نفسك ..انا انضف من عشرة زيك وهو عارفني كويس ..مش كده يا حبيبي ؟؟ كمل بس طريقك ونتفاهم
قلت: حبيبك؟؟انا اعرفك منين ؟؟ وبعدين ملعون ابو الطريق ده اللي كل واحد يقولي كمله ..
قالت "في اغواء واضح" : امممم يعني نسيت كل اللي كان بيننا..واحشني ..
وفجاة بحركة جنونية امسكت رأسي بيديها وقبلتني قبلة فرنسية وكأنها تفاحة سامة جميلة..جن جنون دينا وصرخت: بقي كده..طيب نزلوني بقي ..نزلوني من هنا وقف العربية حالااااااااااا
قلت : استني بس يا دينا انا معرفش بجد مين دي ..وانتي اكتر واحدة عارفة ان اليوم ده كله مش مفهوم يبقي اعذريني..
كان هناك بعض الباعة الجائلين علي جانب الطريق يحملون اغرب انواع البضائع مكتوب عليها
package
وسألني احدهم : هتاخد ال "باكيج" ولا قدام شوية ؟؟
ما الذي يتحدث عنه ؟؟وما هي "الباكيج" التي يقصدها ؟ قلت لكم انه يوم مصبوغ بلون الجنون الكامل.
كلما نظرت الي دينا بجواري كنت اتذكر وكأن توفيق الحكيم يهمس في اذني ويقول "المرأة تحب قلب الرجل المشوي" ..نعم حقا ان قلبي هو وجبتها المفضلة .
قالت دينا : انت بتحبه ؟
قلت: تقصدي مين ؟
قالت: كافكا ؟
قلت: كافكا؟؟؟ ايه اللي فكرك بيه ؟؟
قالت: ما انت حاطط كل كتبه في تابلوه العربية اهو ..
اوقفت السيارة في فزع ونظرت الي مجموعة الكتب ولا اعرف من اين جائت ..انها نسخة اخري تماما غير التي كانت في منزلي ..من المؤكد ان الذي وضعها هو المجنون صاحب السيجارة ..ماذا يقصد بكل هذا ؟؟ لماذا اختارني تحديدا لأمارس هذا الدور المفزع في مسرحيته ؟
يمر الوقت في السيارة ومازلنا في الطريق ليلا لا نعرف له بداية من نهاية حتي قالت دينا : انت ايه اللي حصلك ؟؟
قلت: ايه اللي حصل؟
قالت: بص لنفسك في المراية ..
نظرت اليها في تعجب فقد بدا وجهها ملئ بالتجاعيد ثم نظرت الي مراة السيارة لأري شعري وقد اشتعل شيبا..ثم نظرت الي المراة في المقعد الخلفي لأجدها ميتة وفي يدها زجاجة "فودكا" ..اوقفت السيارة وخرجت اصيح بأقصي صوت : ايه اللي بيحصل؟؟ انا فيييييييين حد يجااااااااااوبني..يا عااااااااااالم يا نااااااااااس حرام عليكم
عدت الي السيارة وفي خلسة مني وجدت الرجل صاحب السيجارة يجلس في المقعد الخلفي ويشير الي في ثقى ان اهدأ وقال : اطلع بس وكمل طريقك وانا هاشرحلك كل حاجة
شعرت كأن شيطان فاوست يدخلني الي عالم اخر عالم لم يخطر علي عقل بشر ..
قابلت مجموعة من الاصدقاء يحملون نعشا لاحد اصدقائنا في الطريق ويبكون..ثم في الطريق وجدت احد اصدقائي يطلب مني ان يركب السيارة معي لاوصله الي ابنه الذي تزوج ليبارك له..
رأيت مقابر عائلتي في غير موضعها وقرأت الفاتحة..ورأيت زوجتي التي توفت في حادث سير وهي في صندوق زجاجي مغطي بالزهور..بكيت كثيرا وشاركتني دينا البكاء..ولا اعرف هل بكت لانني بكيت ام لانني ابكي علي غيرها ..فالمرأة تريد ان تملك كل شئ في الرجل حتي دموعه.
قلت لصاحب السيجارة فجاة : ليه اخترتني انا ليه ؟؟
قال وهو يشعل سيجارته: انا ما بختارش حد..انت اللي لازم تكمل الرحلة كلها..انت خلصت الباكيج كلها ؟
قلت : ايه الباكيج دي كمان اللي في كل مكان ع الطريق؟؟ انتوا اكيد مجانين ودي لعبة بتتلعب علينا انا هاوديكم في داهية
قال: اهدي بس وكمل الطريق ..
اوقفني احدهم وقال لي: افتح العلبة دي خلاص ..انت وصلت ولازم تاخد اخر حتة في الباكيج
فتحت العلبة لاجد شهادات وفاة ووثائق للزواج وشهادات نجاح وغيرها من الاوراق ..
قال الرجل: ايه رأيك ؟
قلت له: رأي في ايه؟؟ دي شهادات وفاة لناس اعرفها ..العلبة فيها افراحهم واحزانهم
قال: اوصل بس للاخر في الورق
وصلت الي اخر ورقة واقشعر جسدي ولم اتمالك نفسي من العويل والصراخ الهستيري وجحظت عيناي عندما وجدت "شهادة وفاة دينا" ..قلت: مش معقول..دي جنبي هنا..مماتتش ولا حاجة انت مجنون..
نظرت اليها فوجدتها قد فارقت الحياة ولم يبقي الا انا وهو داخل السيارة..
قال: بدات بالحب وفارقته ورجعلك وفارقته..خلصت كده رحلتك..بس ايه نصيبه اكبر؟
قلت: نصيب ايه ؟
قال : الفرح ولا الحزن اقوي ؟
نظرت اليه في رعب ثم نظر هو الي السماء وقال : خلاص..
وجدت اوركسترا تعزف علي الطريق لحن هادئ كلاسيكي لموزارت ثم القي سيجارته خارج السيارة وخرج منها وقال في صوت أعلي وهو يصفق وينظر خلفه ويقول : اكملوا رحلته .
No comments:
Post a Comment