يا عذارى الجمال، والحبِّ، والأحلامِ،
بَلْ يَا بَهَاءَ هذا الوُجُودِ
قد رأَيْنا الشُّعُورَ مُنْسَدِلاتٍ
كلّلَتْ حُسْنَها صباحُ الورودِ
ورَأينا الجفونَ تَبْسِمُ..، أو تَحْلُمُ
بالنُّورِ، بالهوى ، بِالنّشيدِ
وَرَأينا الخُدودَ، ضرّجَها السِّحْرُ،
فآهاً مِنْ سِحْرِ تلكَ الخُدود
"أبو القاسم الشابي"
يحكي ان رجل قصير القامة غريب القسمات في مملكة ما في زمان ما قد هام حبا بملكة المكان والزمان التي عجز عن وصفها اللسان وعجز عن حسنها البيان , أقسم بعض خدم القصر أن الأرض قد امتدت من تحت قدميها ذات يوم حين إبتسمت وهي تنظر للقمر ولم يصدقه باقي الخدم ولكن ما صدقه الجميع وامن به للأبد هو هذا الجمال المشهود الذي لا قيد له ولا حدود .
كان الرجل يسكن في كهف يبعد عن القصر عشرات الأميال ولكنه يأتي كل عام ويسأل خدم القصر " هل ما زالت الملكة بنفس جمالها ؟"
فيقول الخدم وهم يتضاحكون علي جنون الرجل "نعم ايها المجنون..هل تقطع كل هذه الأميال كل عام لتسألنا نفس السؤال؟؟ انك حقا لمجنون كريه الوجه " ويكملون ضحكهم ويتغامزون .
وصل خبر الرجل الي الملك بنفسه فحار في امره واستدعي الوزير وقال في حسم " اريد ان أري هذا الرجل الذي يتحدث عنه الجميع..يقولون انه أقبح الناس ويسكن في كهفه وحيدا ولكنه منذ أن رأي الملكة وهو يسأل عنها كل عام..ما قصة هذا الرجل يا تري ؟"
قال الوزير: "لا تهتم بأمره يا مولاي انه مجرد رجل ضعيف قبيح ولو تشاء نقبض عليه في الحال"
الملك: " لا لا ..بل أريد ان يتم استدعائه فورا لأجلس معه وأعرف قصته"
الوزير متعجبا : " ماذا؟؟ هل يجلس الملك مع مثل هذا المعتوه..مقامك أرفع يا مولاي من ألف مثله"
الملك في لهجة حازمة " قلت أريد هذا الرجل في الحال ولا يمسه احدكم بسوء بل اكرموه "
الوزير" أمرك يا مولاي"
خرج الوزير بخمسة من الحرس وقطع الطريق حتي وصل الي كهف الرجل الذي كان معروفا للجميع لانه أقبح اهل المدينة وصاح " أيها الرجل ..أنت..اخرج الينا"
خرج القبيح من الكهف ونظر اليهم وقال " ما الأمر؟لماذا تصيحون؟ هل ستأتوني بأكسير الجمال؟"
ضحك الجميع علي الرجل الذي يسخر من نفسه وقال الوزير" بل أكثر من ذلك ستجلس مع الملك شخصيا أيها الصعلوك ولا اعرف لماذا يطلبك"
قال القبيح: "الملك؟؟الملك بنفسه؟ هل سأري الملكة؟"
الوزير ساخرا : "قلت لكم انه مجنون ..لا اعرف فيما يقحم الملك نفسه اه ياللعجب "
قطعوا الطريق والمراعي الخضراء حتي وصلوا الي القصر الذي ما ان تراه حسبته لؤلؤا منثور كأنه قصر من قصور الجنة بناه الملك هدية للملكة منذ وقت طويل.
دخل القبيح وهو يتلفت حوله وكأنه يبحث عن شئ ما أو احد ما وقال الوزير : ها هو الرجل يا مولاي كما طلبت"
قال الملك: " حسنا اتركنا الأن "
ظل القبيح يتأمل المكان متعجبا وهو يقول في سره : " هل سأري الملكة؟"
قال الملك صائحا: "حدثني ايها الرجل عن أشهي امنياتك وأحبها الي قلبك في هذا العالم"
قال القبيح: " ان أري الملكة ..ملكة الخلود والوجود..ربة الجمال قاتلة القلوب ..انها أشهي امنياتي..فقط ان أراها وأستزيد من شهد جمالها ما يستر قبحي ومن عطاء أريجها ما يغطي خجلي ومن شفاء نظرتها ما يجدد أملي"
قال الملك: "ألا تخاف أن تقول هذا الجمال أمام الملك أيها الرجل؟ ألا تعرف اني قد أقتلك لانك تتحدث عن زوجتي حديث العشاق ؟"
قال القبيح : " انا لا أبالي بالغيرة أمام جمال العطاء..ولا ابالي بالمنافسة امام روعة الكرم..وجمالها معطاء كريم ولا يبخل علي عاشق ولا يضن علي مشتاق ..انا ليس لي أمل أستطيع أن أمتطيه كالحصان لأخطفها منك..وليس لي جمالك كي أستطيع أن أحتضن سحرها بسحري..وليس لي مالك كي أستطيع ان أفيض به علي الشعب من سعادة نظرتها الي..انا لست املك أي شئ كي تخاف مني فاترك لي عطاء الجمال وأستأثر أنت بالجمال نفسه"
قال الملك متأثرا بحديث الرجل : "حدثني عن الجمال ايها الرجل.."
قال القبيح: "ما أشهي الجمال..وكم افتقده في نفسي..الجمال هو الله..الجمال هو لحظة خلق العالم تتجدد امامك كل لحظة..زهرة العيون وسدرة منتهي القلب..
الجمال هو منهل الروح والجسد وغاية الحياة في وجودها وغاية القلوب في طوافها حول جمال العالم.
الجمال هو أقصي ما فقدته وبكيت عليه وأقسي من فقدته ولم يستدل علي عنواني مرة اخري.
وبرغم ان الجمال هو الحب الا ان الجمال ايضا نقيض الحب وهذا هو المستحيل بعينه..فانت لن تعرف الحب الا في عيون من يملكه بينما لن تعرف قيمة الجمال الا في عيون من فقدوه..!
قال الملك : "والله ايها الرجل لو كان معي طلبك ..ولو كان معي اكسير الجمال ما تاخرت عليك لحظة "
قال القبيح : " اريد ان أري الملكة ولو لمرة اخيرة .."
استدعي الملك زوجته وقد استدر الرجل عطفه وأثر فيه فقال : أستدعوا الملكة حالا"
دخلت الملكة اليهم ولم يتمالك الرجل نفسه من البكاء وقال : "انه الأمل..هذا الجمال هو الأمل ..ربما سأصل اليه يوما قبل ان اموت..ربما سأجد الجملا في حكمة او في قلب إمرأة او في زهرة ولكني سأجد لحظة الجمال الكامل مثل تلك اللحظة..ستتكرر هذه اللحظة يا مولاتي ..وسيتكرر قبحي الي ان يستحيل جمالا "
خرج الرجل من القصر وقد دمعت الملكة عطفا عليه ولكن ما اثار استغراب المملكة ان الرجل قد اختفي تماما حتي انه ترك الكهف ولم يجده احدا ابدا ..تري اين اختفي هذا الرجل؟ كان هذا السؤال الذي انتشر بين سكان المملكة.
مرت سنوات طويلة ومرضت الملكة مرضا شديدا ألم بها وقبل ان تفارق الحياة اوصت زوجها وصية وطالبته بتحقيقها ..لقد اوصته ان يعطي مقتنياتها الي الرجل القبيح الذي كانت تشفق علي حاله ..وبعد ان فارقت الحياة ضرب الحزن واليأس قلب الملك ولكنه حاول قدر الامكان تنفيذ وصية زوجته الحبيبة فبحث في عرض البلاد وطولها عن الرجل القبيح حتي وجده في كهف أخر في أخر المملكة .
عرف القبيح بالخبر فبكي بكاءا شديدا حتي قالوا ان من شدة قبحه قد عوي مثل الذئاب واخذ نصيبه من أرث الملكة الذي كان ذهبا وكنزا يكفيه العمر كله ويجعله من اغني الاغنياء ولكنه لن يجعله الأجمل.
بني القبيح بهذه الاموال قصرا كبيرا فوق هضبة عالية بدلا من كهفه وكان يقيم مسابقة جمال كل عام يقيم فيها الأجمل من نساء المملكة ويغدق عليها بالاموال ولكنه لاحظ ان إمرأة ما كانت تأتي كل سنة وتنظر من خلف اسوار القصر وتفر هاربة اذا اقترب منها ..وفي احدي المرات أمسك بها الحراس وقال لها القبيح: من انتي؟ وماذا تريدين ؟
قال احد الحراس : انها امراة مجنونة يا سيدي تاتي كل عام وتسأل سؤالها "هل ما زال القبيح بنفس قبحه؟" انها تهرب في كل مرة يا مولاي حينما نقترب منها ولكن استطعنا ان نمسكها هذه المرة فلتنال عقابها.
نظر اليها القبيح في تعجب وقال لنفسه : "هل ما زال القبيح بنفس قبحه"؟ ان التاريخ يعيد نفسه ..لقد ذكرتني بنفسي حينما كنت أسأل هل مازالت الملكة بنفس جمالها ..لقد كنت أحصل من جمال الملكة علي أمل اتغلب به علي قبحي ودمامتي فماذا تريد هذه من قبحي ؟
قالت : اتركوني يدي تؤلمني..قل لهم يا سيدي ان يتركوني ارجوك..ارحمني ايها الرجل.
قال: اتركوها ..تعالي معي.
دخلوا معا الي القصر الملئ بشتي انواع الطيور والجميلات ..كان القصر نفحة جمالية الهية خالصة ..ووجدت مكتبة ضخمة كلها كتب عن نفس الموضوع "الجمال" ..
قالت: كل هذه الكتب عن الجمال؟؟ ما اضخم تلك المكتبة..
قال : اجد فيها عزائي..ولكنك لم تجيبي علي سؤالي ماذا تريدين مني؟
قالت: ربما ستغضب سيدي ان حدثتك بصراحة
قال: بالعكس ان حاولتي الكذب ساترك الحراس يذهبون بك الي القاضي
قالت: حكايتي اني إمراة قبيحة ينفر منها الرجال ..فكنت اعرف ولا تغضب مني انك كما يقولون اقبح من في المدينة فكنت أتي الي هنا لأجد في وجهك عزائي واعرف اني قد اكون اقبح النساء ولكني لست اقبح من في المملكة.
صفق الرجل بحرارة والسعادة تغمر وجهه وكأنه قد وجد ضالته المنشودة في كلامها وسط ذهول المراة التي تفاجئت بسعادته رغم انها تتحدث عن قبحه
قال الرجل: اذهبي الأن ولكي مني خمس صناديق من الذهب الخالص ايتها المرأة.
فرح الرجل فرحا شديدا ونظر الي مكتبته وقال كل هذه الكتب تتحدث عن الجمال ولكنها لم تحدثني عن حكمته..حكمة الجمال والقبح في هذا العالم.
وأمسك ورقة وقلم وكتب اخر كلماته التي اصبحت بعد ذلك علي جدران القصر :
" حكمة الجمال والقبح : الجمال قال للقبح سأجعل منك عزاء للبعض وقال القبح للجمال ساجعل منك امل وامنية للبعض.
فقال الجمال: ولكنك لا تملك مثل ملكي
قال القبح: انا شريكك في ملك الله خلقنا الله لكي نعطي الأمل ..الجمال امل والقبح في عزائه أمل..الحياة بقبحها وجمالها امل وهذا هو الجمال الحقيقي وهذا هو معدنه."
وقالوا ان الرجل مات وفي احضانه كتاب اخر عن الجمال ..وقالوا ان المراة تزوجت برجل يقاربها في القبح ..وانها بكت بكاءا شديدا علي فراق القبيح ..حينما فقدت عزائها في قبحه ..
ولكن اعجب ما قالوه ان الملك قد أمر بدفنه بجوار زوجته ..لعلها تكون حكمة الجمال والقبح التي وجدها علي جدارن قصره ان يتقابلا في النهاية ويتحدا ولو تحت تراب المملكة" !
No comments:
Post a Comment