كان مولعا بالمسرح ..يقرأ قديمه وحديثه ..تراجيديته وساخره ..يعتبر المسرح كما قال عنه توفيق الحكيم أكثر تنظيما من فنون أخري..ويعشق الافلام الاجنبية وجميع اعمال هيتشكوك ..وبرغم عمله في احدي الكافيهات ذات المستوي الضعيف الا انه كان يقول لنفسه الجملة الشهيرة " حب ما تعمل حتي تعمل ما تحب" واستمر في عمله بكل اخلاص وتفان حتي جائت اللحظة التي اقتحمت حياته "سالي حامد" ..لحظة قد يتوقف عندها التاريخ ويشير اليها التقويم العشقي بلحظة "الصفر" ..لحظة الألف..ألف البداية والنهاية ..ألف القلب وبذرة العاطفة الأولي في قلبه الذي اعتبره سابقا "أرض بوار" .
سالي كانت خريجة كلية تربية ولم تجد العمل المناسب لها كحال اغلب الشباب والفتيات في هذا العصر فاضطرت الي هذا العمل مؤقتا ..كان اليوم هو اول يوم لها في " كافيه اداجيو" علي اسم رواية لابراهيم عبد المجيد ..كان أول يوم لها وأول يوم لنبضه التائه بين ضلوعه ..شعر كأنها احدي ابيات ارثر رامبو الغريبة ..لم يتمالك الا ان ينظر الا اصابعها ..نعم كانت نظرته الأولي لأصابعها ليري ان كان هناك خاتما ملعونا ام لا ..لم يجد..عرف من يومها ان أصابعها ستخترق بسهولة قلبي الهش كما يخترق الاطفال القصر الرملي أمام بحر ..بحر لديه اصرار علي قتل الأحلام في قصرها ..والأمال في مهدها !
قالت له في اول يوم بابتسامة تحرك عالمه ومجراته : اهلا استاذ أدهم ..
مدير العمل: استلم بقي يا سيدي دي سالي زميلتك الجديدة عايزك تعلمها كل حاجة في الكافيه ..ادهم من اكفأ الموظفين عندنا اتطمني انتي في ايد امينة.
قال ادهم في انكسارة : اهلا نورتي...
وكان يقول لنفسه .."نورتي كل حاجة فيا" ..!
أدهم كان يتيما منذ الصغر يفتقر الي الحنان والعطف حتي من اقرب الناس له ..لم يحصل ولو علي قدر ضئيل من العاطفة والحب من خالته التي اهملته وكانت تهتم بأبنائها فقط وحتي حبه الاول سرقه منه ابن خالته الأكبر ..نعم لقد سرق حبه الأول وترك بعدها البيت مهموما حزينا حتي قرر ان يهرب ويعيش وحيدا ويعتمد علي نفسه بعد التخرج ويخرج عن عالم خالته الظالم القاسي .
كل شئ أحبه اخذوه منه..مسرحياته , رواياته, حتي البنت التي احبها ..انهم لم يرحموه يوما وأصبحت حياته نفقا مظلما يشتاق لنور العطف في نهايته .
يشعر بالضعف ويشعر بالحرمان الي من يحبه حقا من قلبه ..في غرفته الخاصة كتب عبارة بخط عريض "من يشتري مملكتي بحصان ؟" وهي الجملة الشهيرة في مسرحية شكسبير ..كان يستخدم هذه الجملة خارج اطار المسرحية للتعبير عن انه مستعدا لبيع عالمه بالكامل من اجل الحب ..الحب الحقيقي المحروم منه.
انغمست سالي في العمل وبدات تتعلم منه كل شئ تقريبا وهو كان دائم الخجل وينظر لها نظرة كأنها استاذته حتي انها كانت تتعجب من خجله الشديد وقالت له : انت ليه مكسوف مني استاذ أدهم ده احنا بقينا عشرة دلوقتي في الشغل .
جن جنونه من تلك العبارة..هل تريد ان تتقرب منه؟؟ هل تحبه؟؟ ..البعض يأخذ مقاصد الغير حسب توجهاته بل ويثبتها لنفسه علي انها حقيقة ثم يتعامل مع الحقيقة علي انها مسلمات !!
رغم انها لم تقل شئ تقريبا الا انه اعتبر انها اول اشارة.."اتبعوا الاشارات" نعم نعم هكذا قالوا..سأتبع الاشارات ...اعرف انك معجبة بي يا سالي وأنا ايضا صدقيني ..صدقيني يا "حبيبتي الأبدية" !
عرفت ولعه بالمسرح..انه لا يفارق كتب المسرح في اوقات الاستراحة من العمل ..وفي احد الايام انقض كالمجنون علي احد الزبائن بعد ان غازل سالي ببعض العبارات السخيفة..كاد ان يفتك به ..وكاد ان يفقد عمله لولا كفائته التي شفعت له عند مديره ..
خرج من المشاجرة منفعلا بنظرة نارية تعجبت منها سالي وقال وهو يزفر بجنون : المجنون..هو فاكر ايه..ده انا اقتله ..والله اقتله !!!
بدات سالي من الاقتراب منه ..ولكي تقترب من شخص تبحث اولا عن اهتماماته ثم تتغلغل كاحداها ..تحدثوا عن المسرح قليلا ولكنه ظل يتكلم عنه لساعات..ساعات لا يسكت ولا يمل وهو ينظر الي عينيها لاول مرة ..عينيها التي غاص فيها كما قصيدة نزار "نحو الأعمق" ! وما ان تصل للاعمق فلن ينقذك أي احد...الحب كما العالم السفلي..ان دخلته فلن تخرج منه الا بجنونك وندمك !
أعتبرها من ممتلكاته..أعتبرها حديقته الخاصة الفواحة..اعتبرها نهره الذي سيغزوه بالنوارس والسفن..لم يتخيل يوما ان تكون لغيره رغم انها في الاساس ليست له ولكنه خلق في عيناها عالمه الخاص ..واصبح سيد عالمه ..عالمه الخاص المشبع بالغموض .
ظهر في الأفق "مجدي الرائد" انها تعرفه منذ زمن ..من ايام الجامعة..قالت في اول يوم تلتقيه في الكافيه : مجدي؟؟ ازيك ايه الصدفة دي؟ اخبارك ايه؟
مجدي في ابتسامة يحييها: سالي..مش ممكن ..مشوفتكيش من زمان قوي انتي بتشتغلي هنا ؟ ده انا حظي حلو والله اني قابلتك .
لا لا ..لن تكون..لن تكون هو مرة اخري.."قال لنفسه" ..كان يتحدث عن ابنة خالته صائد الأحلام..قاتل الفرحة والأمل..لن تكون انت من جديد ..لن تأخذها مني .
في عالمه الخاص اصبحت هي له ومن يحاول غزو هذا العالم عليه ان يلعب بقوانينه ..عليه ان يلعب بقوانينه ..قالها بصوت فاضح في النهاية حتي سمعه البعض : "بقوانين أدهم" .
حاول ان يكسبهم معا ..انه لا يستطيع بضعفه ان يعترف لها بحبه الذي يتغلغل علي اطراف اصابعه كالسفاح ويغزو مدائنه كل مساء..سار علي المثل القائل " اذا كنت لا تستطيع ان تهزمهم..انضم لهم" ..
قال لها : سالي ممكن تساعديني في حاجة؟؟
سالي: طبعا يا ادهم انت زي اخويا .
"اخويا" ؟؟ نزلت الكلمة كالصاعقة..ارتعشت حتي تفاصيله واصبح كالجرذ الهارب بين شقوق الوحدة مرة اخري.."اخويا" ؟؟ اذا لقد صدقت التنبؤات..مجدي لم يظهر صدفة ؟؟ مجدي هو من جديد..انه صائد الأحلام !
قال لها: انا عايزك تكتبي معايا مسرحية وتساعديني انتي واستاذ مجدي..انا شايفه بيتردد كتير ع المكان ..ياريت لو تفضولي يومين بس نكتب فصول مسرحية تراجيديا.
سالي: من عنيا يا ادهم ده اول طلب تطلبه مني وانا مش هاتأخر عنك ابدا.
قال لنفسه : "من عينيك؟؟ ولماذا لم تقطفي لي تفاحة الجنة من عينيك..لماذا يقضمها هو وأقف انا موقف الحاقد العاشق ..لماذا اختارني العالم للعب دور العاشق السري ..لماذا وجدت ضعيفا ؟؟ لماذا ؟؟؟..
"العشق كالخنجر في صدر العاشق اذا اعلنه أخرجه..واذا كتمه عاش كالغمد له".
بدأوا في كتابة المسرحية ..لقد تاكد تمام من نظرات اعينهم ان الكافيه كان جنتهم الموعودة وانه عاد بعد سنوات ليلتقي سالي بالصدفة التي تحولت لحب جارف مع الايام والذكريات واللقاءات المتواصلة..نعم شب نار الحب ولظاه في قلب مجدي..
قال ادهم: احنا هنعمل مسرحية رائعة جدا ..فيها غيرة وحب ودراما قوية جدا .
وبعد فترة في مقر احد الاقسام :
الظابط: يا استاذ مجدي مافيش داعي للانكار ..الموضوع واضح ومافيش فيه لبس والبصمات في كل مكان
مجدي: ده جنون..والله ما عملت حاجة ده قتل عمري وحياتي المجنون..عملها المجنون
الظابط: يا استاذ مجدي الجوابات فيها كل التفاصيل..ده انت كنت كاتب جوابات حب الجملة وفي الاخر قلبت بتهديد تحب اقرالك منها؟ ولا هتنكر ان ده خطك ؟
مجدي "منهارا" : صدقني دي مسرحية ..قالنا انه بيعمل مسرحية ..إسألوه..إسألوه
الظابط: مسرحية اه ..كلام معقول برضه ..تنكر انك كنت بتقابلها كل يوم بليل في الكافيه في الفترة الاخيرة
مجدي: ايوه ده حصل لكن لاني كنت بحبها
الظابط: ما انا عارف وده دليل ادانتك..ما هي الجوابات كلها حب ودافع القتل الغيرة في النهاية..دي جملة من اخر جواب وبخط ايدك " مهما كانت علاقتك بيه مش هيهمني..انتي ملكي..ملكي حتي لو اضطريت اني اقتلك..اكلك أكل واشرب من دمك"
مجدي: ...........
الظابط: مش هترد يعني ..؟ خدوه دلوقتي
وفي الاسكندرية امام شاطئ البحر ..جلس أدهم بعد نهاية التحقيقات واثبات برائته يسترجع ما حدث ..
في ليلة من ليالي كتابة المسرحية قال لهم ادهم: اكتب اكتب انت في الحوار بتاعك "مهما كانت علاقتك بيه مش هيهمني..انتي ملكي..ملكي حتي لو اضطريت اني اقتلك..اكلك أكل واشرب من دمك"
سالي: يا ساتر ايه المسرحية دي يا ادهم ده حوار صعب ودموي قوي
ادهم: معلش يا سالي ارجوكي ساعديني دي املي ونفسي اخلصها وانا عارف اني تعبتكم معايا ولو عايزين تبطلوا خلاص يا جماعة والله ما هاضغط عليكم
سالي" بنبرة عطف" : خلاص يا ادهم ما تزعلش ولا يهمك انا بس كنت بعلق علي الحوار انما طبعا هنساعدك صح يا مجدي؟
مجدي ناظرا بحب لسالي: طبعا يا سالي انا تحت امرك انتي وزميلك.
كانت الخطابات تتعدي العشرين ..في صندوق خشبي صغير بجوار الجثة..تركها ادهم ورحل..كان الموعد في الثانية صباحا ..الكافيه مغلق ولكن كانت العلاقة قد توطدت بين ادهم ومجدي ..واثناء جلوسهم في احدي الكازينوهات :
ادهم: ده اخر يوم يا مجدي ولازم سالي تيجي دلوقتي تسلمني الورق اللي معاها ..ورق المسرحية انا مطلوبة مني بكرة لعرضها علي اللجنة وكده مستقبلي هيضيع
مجدي: ده معاد صعب قوي يا ادهم..
ادهم: معلش هي ربع ساعة في الكافيه انا المدير سايبلي نسخة من المفتاح من زمان هتسلمني هي الورق وهاجيب باقي الورق بتاعي من هناك وتمشي علطول
ارسل ادهم رسالة بهذا المعني من هاتف مجدي الي سالي ان تحضر فورا في الكافيه وحكي لها كل شئ في الرسالة ..جائت سالي بالأوراق الخاصة بالمسرحية وفتحوا الكافيه المغلق ووضعوا عليع من الخارج علامة "مغلق".
سالي: طيب بما انك سهرتنا يا عم ادهم كده وانا جيت عشان خطرك تشربوا حاجة بقي قبل ما نمشي.
ادهم: اكيد اكيد لازم نشرب حاجة ثانية واحدة يا مجدي هاحضر مع سالي حاجة في المطبخ وجاي علطول
وبعد دقائق : خد يا مجدي اشرب الكوكتيل ده هيعجبك ده سالي اللي عملته قبل ما تمشي .
مجدي: مشيت ؟؟
ادهم: اه هي قالت انها اتاخرت قوي وادتني الورق علي العموم .
مجدي: انت لابس جوانتي كمان انت بالغ قوي يا ادهم هي سقعة قوي بس مش للدرجة دي.
ادهم: انا بردان مووووت يا مجدي خليك دقيقتين هنا وجايلك هأمن بس ع المطبخ جوة اشرب انت العصير.
كل شئ معد له ..بلاغ للشرطة ..هجوم علي الكافيه ..مجدي متلبسا ..يشرب "الكوكتيل" الذي عرفوا تفاصيل محتوياته في مكالمة "فاعل خير" وتأكدوا انها تحتوي علي دماء سالي..نعم لقد كان يشرب كوكتيل من الفواكه والدماء..وتأكدوا من هذا بعد تحليله..
الخطابات الدموية في كل مكان..لم تكن علي شكل حوار مسرحي كما طلب منهم ادهم كانت علي شكل خطابات ..بخط يد سالي ومجدي بين الحب والوعيد والتهديد بالقتل..والجثة في المطبخ خير برهان !
قال ادهم لنفسه امام البحر : " لن يأخذ مني احدا شيئا حي ..وخصوصا الحب..اذا اردت الانتصار فالعب بقوانيني..وقوانيني الحب والموت" .
جلس يقرأ في احدي كتب الاساطير للمرة الثالثة عن انتقام هيرا من عشيقة زوجها بان جعلتها تاكل اولادها .
وامسك احدي سطور الكتاب المقدس التي علم بين سطورها وفهمها بطريقته الخاصة وبمغزاه الخاص في عالمه الخاص جدا :
"ثم قال لها الملك ما لك فقالت ان هذه المراة قد قالت لي هاتي ابنك فناكله اليوم ثم ناكل ابني غدا" سفر الملوك الثاني .
تذكر اول قصر رملي بناه وهدمه اقاربه وضحكوا عليه ووضعوا رأسه فيه وسكبوا عليه الماء..لقد قال لهم "اسمع اصوات تناديني من البحر" قالوا عنه "مجنون" .
تنهد تنهيدة ونام امام شاطئ البحر بعد ان بني بيت من الرمال ..لن تعبث به اصابع سالي ..لقد اختار ان يعبث البحر بقصره الرملي في النهاية .
No comments:
Post a Comment