في إحدي أيام الصيف ما وراء غياهب هذا العالم في لحظة عشق منسية وقفت انظر من شباك غرفتي..
لا أعرف شيئا عن تلك اللحظة إلا إنها أشبه بالعالم الموازي..ليست تلك الإطلالة هي ما أطل عليها كل صباح..
لم أري تلك الشجرة الوارفة من قبل ولا هذا النهر ولا هذا الصراط الذهبي ولا تلك الثريا الغارقة في الزهور والعبير..
ما هذا ؟؟ أين انا ؟؟ هل أسكرتني لحظة التفكير بها الي تلك الدرجة ؟؟
من هذه ؟
أراها طيف عابر مجنون تثيرني بفستانها المفتوح الجوانب كأنه قبس من خلود وبصدرها المشدود كأنه لعبة ماريونيت لقديسات هاربات في سماء الحب ..
كانت نظرتها من خلف هذا "الشابوه" علي رأسها الملئ بالدانتيل الناعم كأنها تنافس في قوتها نعومة مشهد هذا الصدر البض ..
ياللدهشة..من أري..الأن ظهرت أكثر..إنها هي..!
هرولت مسرعا كطفل يجذبه جنون يوم العيد ونزلت الي تلك الأرض التي لا أعرفها ولا أعرف لها سميا..
وقفت أقترب أكثر وأكثر احاول أن أكذب عيناي ولكن لا أملك أي أدلة ولا دليل إدانة علي تلك العيون العاشقة التي اكدت رؤية هلال جمالها ..
وقفت مشدوها تتخطفني اللحظة وتهزني في مهد جنوني وقلت لها في صوت متحشرج ضعيف :أنتي ؟؟
قالت : ولم لا ؟
كان الرد غريبا جدا ربما أغرب من تلك الصدفة ..من يرد بتلك الكلمات لهذا السؤال .."لم لا" ..ولكن.."لم نعم" !!
هل عادت من رحلة عقلي أم خرجت من لاوعي دهشتي ووحشتي ووحدتي وقلقي !
اقتربت أكثر بحذر كالسائر علي الجمر وقلت : كيف رجعتي ..ولماذا تقفين علي حافة النهر !
قالت في نعومة : ألم يعجبك الفستان في البداية ؟
قلت متلهفا وبتسرع: نعم ..طبعا طبعا ..انه..
ثم سكت لبرهة أراجع فيها نفسي وقلت لماذا تسأل هذا السؤال بتلك الثقة وتلك النظرة الماكرة ! ان كانت هي حبيبتي فأنا اعرفها جيدا كان كل سؤال لها له هدف وغاية..وكأنها تقول دائما "الحب يبرر الوسيلة"
بدأت أتردد وقلت : نعم أعجبني ولكن ليس هو المهم الأن من أين عدتي ..هل إستدعتك النار اليقظة في أحشائي كفعل السحر ..هل شعرتي بوحدتي بدونك تلك السنوات فقررتي العودة ؟ وهل عدتي واقعا أم خيالا كما تلك الأرض وتلك الاشجار التي لا أعرفها .
قالت وهي تزيد فتحة صدرها اتساعا كانها ساحرة تخرج لي تفاحة حمراء شهية من خلف الفستان الأحمر : أسئلتك كثيرة ..ولكن المشهد يرتعد له الفارس ويخر صريعا له الجبل وانت لا تسال إلا عن عودتي وتنظر الي فستاني
بدات اشعر بالقلق من محاولة إغوائها الغريبة وتركيزها علي الفستان وكانها تتأكد هل انا نفسي حبيبها قديم العهد الذي لا يقدس الا عينيها أم صرت مجرد رجل شره مفتقد لعشيقة في ليلة جسد ونبيذ !
قلت في حدة : دعك من هذا الفستان ..فسري لي ما يحدث ولم تقتربي من النهر أكثر وأكثر حذار السقوط حبيبتي فالنهر عميق..
قالت وهي تضحك : أنظر خلفك حاول ان تخرج من مشهدي الي كامل المشهد
نظرت خلفي وكأن صيب من السماء ضربني وأرتعدت للحظة وحاولت أن اتمالك نفسي وقلت : ياالله ما هذا.. من هو ؟
قالت : إنه ملك الموت
قلت بعفوية وانا خائف : حبيبتي وما شأننا وشانه..إبتعدي عن الحافة أرجوك..ما الموت الا لحظة نعيشها في لقائنا حين تحملني قدسيتك الي كل الطاهر فأتبخر في أهدابك كأني غرقت في مثلث برمودا العشقي وأذوق طعم الموت بلذة الحياة .
قال الملك : الموت بدايته العشق
قلت له مقاطعا : ونهايته العشق
قال : بل الموت نهاية العشق
قلت : العشق لا يموت..هل قبضت روح شعور..هل قتلت بيديك إحساس ..لا والله لن تقدر فالعشق هو حدك ونهايتك ومصيرك فلا يمكن ان يكون الموت هو النهاية بل الموت له نهاية وهي العشق حينما يسير الموت علي طريق الجمال..
قال ساخرا : اه موت جميل ؟ اعذرني رغم خبرتي في الموت سنوات لم أري من يموت متلذذا..
قلت : لانك لا تقبض الا روح اليائسين ..تستطيع ان تقبض روح من يعطي ولكنك لا تستطيع ان تقبض روح العطاء..تستطيع ان تقتل من يضحي ولكنك لا تستطيع ان تقتل التضحية..ألا تشعر بالعجز احيانا !
قال في انكسار كانه اكتسب صفات البشر : بلي..
قلت : دعني أوضح لك ان كل من مر علي فردوس العشق مات متلذذا ..وكما قلت لك ان الموت نهايته العشق ..فإن اللذة ايضا نهايتها العشق ..فيصير العشق هو "لذة الموت" والحياة بدونه هي "موت اللذة".
قال : ولكن حبيبتك تموت امامك الأن ولن يمنع عنها العشق قدرها ..لان الموت أقوي من الحب..
قلت : ولماذا تموت ..خذ روحي أنا ..خذ أغلي ما في نفسي وأقدسه وأترك بهائها ينير الأرض ويشرق في أقل فيضه..
خذ روحي وأترك عينيها تحاصر تلك السماء وتتحدي الملائكة وتبقي علي عشق لا يبقي ولا يذر..
قال : انك تضحي..وهي تضحي أيضا
قلت لها في هدوء ورقرقة دموع : ما ذنبي أنا تتركي الحياة كمدا وتتركي الخيال خصبا للموت وللفجيعة..
إن كانت تلك هي تضحيتك للحب فإتركيني أضحي ..إتركيني أصلي في معبدك صلاة اخيرة لعل تلك الصلاة تذيب ما في قلبك من قدرة علي هجري مرة اخري..
إتركيني اتمدد علي أورجازم العشق العقلي وتلك النشوة المجنونة في دموعي لتعرفي مدي الكمال في رغبتي في بقائك ومدي الديمومة في تلك الامنية ..فإن أدركتي المدي في رغبتي ستدركك الأمنيات ولو في موتك.
قالت باكية : حبيبي انا لا أستطيع..انا..أنا..
قلت باكيا :ماذا..أنت ماذا ؟ أنت راحلة مرة اخري..والرحلة لا تعرف الغفران ولا التمهل..الرحلة لا تعرف الا الوداع وحقائب الوجع وأناشيد الغربة..
قالت : اعذرني..أنا..أنا عروس النيل..
قلت في تعجب : ما الذي تتحدثين عنه ؟ نعم أنت عروس النيل ..ولكن هذا النيل..في دمائي يا حبيبتي..فإن إخترتي الموت..فدمائي نهرك إن أردتي..
قالت : جبران قل له ان يتركني الأن أرجوك
إنشقت الأرض عن إله الحب "جبران خليل جبران" وكأن كل ما أعشقه وأتمتم به في خصب خيالي يتجلي أمامي الأن حي..فعلا إنها لحظة تجلي مجنونة حين ظهر فجاة وقال هادئا : أتركها تمر بسلام ..سلام الله عليك وسلام الحب عليك..
قلت وانا شبه فاقد الهوية أمام حضرته وعظمته : جبران ؟ قديس الكلمات وساحر الحروف وإله الحب أمامي ؟؟ في أي عالم أنا إن إجتمع فيه ملك موت وجبران وحب العمر !!
أي جبروت تملكون أيها السادة كي تضعونني في هذا المشهد..!!
قال جبران : التضحية أيها العاشق التضحية..حتي الزهرة تضحي من اجل العاشق وتترك له نفسها حبا وطواعية ..
قلت : ولم لا تكون هي الشمس وليس الزهرة ؟
قال : تقصد العطاء
قلت : بلي سيدي المقدس بلي..لم لا تكون عروس النيل للعطاء وليس للتضحية..
أليست التضحية في الحب بابا لتقديم القرابين لنبض قلب العاشق..أليست التضحية وسيلة للقرب ..
قاطعني جبران وقال : التضحية لحظات والعطاء فيض..
التضحية هي الأب الروحي للعطاء ووحيه وجبل خلوته ورسالته..
فأنا اريدها عروس النيل تضحي بنفسها من أجل الحب ومن أجلك ..
انا اريدها زهرة تهدي روحها وانت تريدها شمس تكمل حياة الزهور ..
ولكن الزهور كاملة وتكرار لحظة اكتمالها قد يجعل المشهد رتيبا ..بينما لحظة التضحية أقوي من عشر لحظات عطاء وأيقن لو تعلمون..
قلت : سيدي..لا طاعة لمعشوق في معصية العاشق..سيدي وملهمي أنا أشعر إني جزء في كلمات ايليا أبو ماضي حين قال :
وويح صرعى الغرام إنهم
موتى وما كفنوا ولا قبروا
يمشون في الأرض ليس يأخذهم
زهو ولا في خدودهم صعر
لو ولج الناس في سرائرهم
هانت وربي عليهم سقر
أرجوك سيدي إبقها لي ولو لحظة ..دعني أتأمل في عينيها لوحات مايكل انجلو ودافنشي ..دعني احارب في عينيها طواويس غروري وزهوي ..دعني أصارع علي مدامعها سقطاتي وانهزامي..
ملك الموت قطاعني في شدة : انه وقت الموت..وقت التضحية ..هبي سيدتي فالنيل يناديك..هيا عروس النيل ..حانت قفزتك الملائكية ..حان وقتك وحان وقت قربان الحب الجديد..
ليخلد الحب..ليخلد الحب..ليخلد الحب
نظر جبران الي الارض دامعا وقال وكأنه يتشهد ويحرك إصبعه : ليخلد الحب ..ليخلد الحب
هرولت مسرعا اليها علي صراطها الذهبي المفروش بالأزهار..حاورني الثري وحاورتني الاشجار وكأن الارض الممدودة تطول وتزيد علي المسافة كي لا أصل اليها ..
قلت في صوت يعلو تدريجيا :لااااا حبيبتي إنتظري..ويحكم ماذا تفعلون..ويحكم ماذا جنيت ..
وأتت اللحظة ولم يبقي الا الفستان الرائع وسقطت هي عارية كعروس النيل وإختفت عن ناظري ولم تختفي عن قلبي وجنوني..
ونظر الي جبران في انكسار وكانه يعتذر لي وقال لي ملك الموت : تلك اللحظة لن تقصها علي أحد ..هل فهمت..لقد حضرت مراسم عروس النيل وتسليم قربان جديد للحب ..وهذا ممنوع علي البشر..
ولكن حبيبتك شفعت لك عندي وقالت دعه يحصل علي قسط أخر من الروعة فقد بكي دهرا وحان له ان يحصل علي لحظة كمال جديدة..
قلت : أشكرك يا سيد موت وأشكرك يا سيد...
نظرت حولي مندهشا حين اختفي جبران في شكل غريب ولم اسمع منه الا اخر حروفه التي رددها في كتبه وكان المشهد يررد معه كلمات جبران الشهيرة :
"إذا أشارت المحبة إليكم فاتبعوها، وإن كانت مسالكها صعبة متحدِّرة. وإذا ضمّتكم بجناحيها فأطيعوها، وإن جرَّحكم سيفها المستور بين ريشها."
صرخت وقلت : جبراااااااااان..أين أنت..جبراااااااااااااااااان..حبيبتي..حبيبتي ..يا الله..يالله.يا الله..
طار ملك الموت هاربا هو الاخر وعاد المشهد كما كان وعادت لي الرؤية من شباك غرفتي كما كانت قديما ورأيت الشارع والعربات وغيرها من مشاهد الحياة الإعتيادية وتمنيت لو بقيت في مشهد التضحية ..
وتمنيت لو حتي خلدت فيه ولم أعد لحياتي العادية ..تمنيت لو ملكني المشهد بدلا من أملك حياة من مشهد واحد..تمنيت لو إمتلكني جبران بدلا من أن اموت علي كلماته وعشقي له ونومي علي وسائده المعطرة..تمنيت أن أبقي ولو ليلة واحدة أخيرة في حضن هذا المشهد..
ولكني لمحت من خلف شباكي فتاة بفستانها الاحمر ..تشبه ولو من بعيد..
تشبه ولو..
تشبه..
ياالله ..انها هي ..
انها هي في الحرب الناعمة بين التضحية والعطاء..
حرب قلبي مع هذا العالم الغريب ..