في ليلة مقمرة هادئة كان الاستاذ عصام يجلس كعادته في مخدعه يشرب عصير البرتقال الطازج ثم ينام علي بطنه مقلبا صفحات كتاب من كتب "محمد عبد الحليم عبد الله" ويتذكر مع قصصه ايام من الماضي كقصاصات ملونة بطفولته الرشيقة ومتذكرا كلمات امه "متنامش علي بطنك بعد العصير يا عصام.بطنك هتوجعك"..!
لم يغير السن شيئا من عاداته..بل وكأنه لم يكن يدري عمره حيث تظهر معالم طفولته في حركات قدميه وهو نائم علي بطنه في مشهد طفولي صعب علي سنه البالغ "خمسة وستون عاما" ..كان فقط شعره الابيض عندما ينظر في المرأة هو ما يبين له ضرورة ان يشرب العصير دون ان ينقلب علي السرير كالاطفال..وكانت حفيدته هي ما يذكره بسنه وكأن الاطفال قد خلقوا فقط ليذكروا اصحاب الشعر الابيض بحقيقة سنهم ..عندما يري معالم وخطوط وجههم الصبيانية الشابة وخطواتهم السريعة التي لا تحتاج الي سندة وتنهيدة اثناء النهوض !
وكأنك تعرف منهم حقيقة عمرك الذي تخفيه عن نفسك بالتصابي او بمحاولة العودة للماضي الجميل وكأن الاجيال الاصغر هم مرأة الشعر الابيض الذين لا يحملون في جعبتهم اي صبغة .
كانت "بسمة" حفيدة الاستاذ عصام او حفيدة اخته بالمعني الحقيقي وكانت تناديه "جدو" كثيرا ما تاتي لزيارته لاستعارة بعض القصص واحيانا يتحدثون عن بعض الامور العاطفية الخاصة بها التي لا تجرؤ علي مناقشتها مع امها خجلا ومداراة..بينما كانت تفتح قلبها تماما لجدها عصام الذي اعتبرها صديقته المخلصة وعضوة معه في مكتبة المنزل الذي دئما ما ينصحها بكتب "محمد عبد الحليم"
وهي تقول في ضجر : يوووه تاني يا جدو..ما المكتبة مليانة !!انت خليتني اقرا كل كتبه كذا مرة
ويرد عليها مبتسما : المهم اللي بين السطور يا بسمة.
كان الاستاذ عصام يقطن في منطقة "المهندسين" وحيدا في شقة من طراز قديم تملأها الكتب والبراويز وكأنها تعبير عن زحام يتمناه في حياته او فوضي يتمناها في حياته المهندمة او كأنهم اصدقاء جدد يملأ بهم المكان الخاوي !
كانت مكتبته تمتلأ بكل ما يمت للحب بصلة من احسان عبد القدوس ويوسف السباعي وانيس منصور الي ادب روسي وقصص رومانسية عالمية يختارها بعناية من قرائته السريعة بطرف عينه ورفعة النظارة للفهرس..وكان دائما ما يقول لبسمة "كل انسان زي الكتاب ممكن تعرفي كل حاجة جواه من نظرة للفهرس ..وفهرس كل انسان بيبان من نظرة وكلمة بس المهم اللي يقراه بعناية ..انتي ممكن تشوفي ست عجوزة تصعب عليكي لانك مش شايفة التفاحة المسمومة اللي شيلاها ورا ضهرها ليكي "
كان من يري الاستاذ عصام بين كتبه يعتقد ان الحب فرض عليه حراسة او اقامة جبرية بين هذه الكتب كعقاب له علي هجره لحبيبته منذ سنوات !
كان من يستعير منه كتاب يجده مزركش بحروف باسم حبيبته فيما بين الصفحات التي ينوي قرائتها لاحقا وايضا اسمها في كل الهوامش وفي بداية الكتاب..حتي انه يمسح الإهداء الذي يكون في بداية كل كتاب ليكتب اهداء اليها !
لم يري في الامطار الا قبلة بين سيل وزهر ولم يري في الشروق الا قبلة بين شمس وسحب ولم يري في الغروب الا احمرار لوجه الدنيا خجلا من العشاق.
لم تتفتح زهرة الحب في قلبه من جديد الا من قصة حفيدته بسمة التي كانت تحكي له عن صديقتها هناء وقصة حبها ورغم انها كانت تحكي بشغف له كل ليلة الا ان عصام كان يعرف جيدا ان تلك القصة كانت لبسمة نفسها ولكنها كانت محرجة قليلا ان تقول ذلك مثل ما يحدث دائما في سن الشباب والذي يفطنه جيدا اصحاب الشعر الابيض ويعرفون كيف يروه من بين السطور .
وقال لها الاستاذ عصام بعد ان اعدت كوبا من الشاي : طيب هي عارفة انه بيحبها ليه محاولتش تسهل عليه الموضوع وتكلمه ؟
بسمة: ما انت عارف يا جدو المفروض هو اللي يتكلم الاول
عصام : ياما قصة الخجل دي فرضت ستار وستار علي قصص حب كتير بس خجل الحب اللذيذ سمعتي اغنية نجاة ؟
بسمة: اغنية ايه ؟
عصام : كانت بتقول بينا شطين وبحر اسمه بحر الخجل هنعديه بعد شهر علي مركب الامل ..كانت اغنية بحبها جدا
بسمة: انا كمان بحب صوتها جدا
عصام: طيب هي بتحبه ؟
بسمة: هي مين ؟
عصام: صاحبتك؟
بسمة: اه طبعا يا جدو بس مش عارفة تبدأ منين
عصام: بتحبه فعلا ولا مجرد اعجاب ؟
بسمة: دي بتبص عليه من ورا الشباك كل يوم من ورا الستارة وهو خارج من بيته لانهم جيران عشان تتطمن عليه من بعيد
عصام: من ورا الستارة ؟
لم تكن تلك الجملة رغم برائتها وسهولتها الا ونزلت كالرعد علي الاستاذ عصام الذي تذكر قصة حبه القديمة والتي كان يظنها دائما من طرف واحد ..طرفه هو فقط..
ولكن استحضر تلك الصورة في خياله عندما كان يري الستارة في منزلها تهتز دائما اثناء مروره بجوار منزل حبيبته ..وكأن بسمة الصغيرة هي من نبهته الي علامة حب قديمة جدا لم يفطن لها من فرط انغماسه في الحب لدرجة انه لم يكن يري الا حبه فقط دون ان يشعر ان حبيبته ايضا كانت تشعر به
كانت الامطار تهطل بغزارة علي شباك غرفة الاستاذ عصام ولم يري منها الا بعض جيرانه يغلقون الشبابيك والستائر ..وكأن مشهد حركة الستائر اصبح مسرحية او كوميديا سوداء تذكره بحماقته في الماضي وكيف لم يفطن لحب امرأة اضاعها من يده لانه ظن دائما انها كانت تحب اخر وان حبه كان من طرف واحد..كيف كانت رعشة الستائر دليل علي اهتمامها او معرفتها علي الاقل بمشاعره لها وتقديرها لتلك المشاعر ..والمرأة كما المسرحية لا تنحني تقديرا الا اذا شعر بشغفك الحقيقي او تصفيق قلبك الحاد..
بسمة "مسرعة" : مالك يا جدو ؟اجيبلك مياه ؟
عصام : لا مافيش يا بسمة ..انا بس كنت دايخ شوية هافوق دلوقتي
ظل يتذكر الامطار التي سقطت من عشرين عاما علي الاقل وهو يرتدي ملابسه الثقيلة ويجري في الشارع بشمسيته وحركة الستائر القلقة في منزل حبيبته التي كانت تلقي نظرة عليه دائما عندما يمر امامها وكانها قلقة عليه وسرعان ما تختبأ خلف الستائر خجلا عندما ينظر ولا تبقي الا هزة الستائر ودموع الشبابيك
ولكن..وياللعجب كان المشهد كله في غرفة صغيرة ولم تكن هناك بسمة..ولم تكن هناك مكتبة الا مكتبة المستشفي..ولم يكن احد يحدثه الا ممرضة المستشفي..و حبيبته السابقة "دارين" وابنها الصغير
دارين: هو لسه تعبان يا دكتور ؟
كان السؤال موجها للدكتور سيد باحد مستشفيات الامراض النفسية في القاهرة لكي يشرح لها الحالة
دكتور سيد : للأسف الحالة بتسوء..ولسه بيكلم بسمة الممرضة علي انها حفيدته
دارين: وفي امل يا دكتور؟ انا بتألم كل ما اشوفه بالوضع ده ..انا السبب..انا السبب
دكتور سيد: احنا بنحاول يا مدام دارين وان شاء الله يخرج من الحالة دي
ولكن الغريب جدا انها نظرت لغرفته من الحديقة فوجدت ايضا نفس لون الستائر التي كانت تنظر منها منذ اعوام ونفس هزة الستائر وكأن عصام كان ينظر اليها او يعرف من هي وليس مريضا كما يدعي او ينكر انه يعرفها ..كان ينظر اليها من غرفته بالمستشفي ولكن كلما اتت لزيارته انكر انه يعرفها حتي ..جرت مسرعة الي الغرفة لتتأكد
دارين : عصام ؟ انت عارفني ولا لأ..قول يا عصام..انت كنت بتبصلي حالا ولا انا كنت بحلم ؟ عصام..انا مكانش في حاجة في ايدي ساعتها احنا افترقنا وده قدر بس انا اسفة..
عصام انت بتعيط ؟
عصام : دي مش دموعي..دي دموع الستاير والشبابيك يا......دارين !!
عرفت دارين انه كان يعرفها طوال هذه الفترة ولكنه كان يختبأ منها وراء حالة انكار كاملة ومتعمدة..وبعد عدة اعوام خرج من المستشفي رجلا بذقن كبيرة وبيضاء لايجار احدي الشقق وسرعان ما فتحت له احدي الفتيات الشقة وقالت له :ايه راي حضرتك بقي شقة واسعة وبتطل علي منظر جميل
عصام : انتي اسمك ايه يا بنتي ؟
الفتاة: بسمة حضرتك
عصام : بسمة ؟؟ بتحبي تقري ل "محمد عبد الحليم عبد الله " يا بسمة ؟؟
1 comment:
استاااااااااااااااااااااذ
قصة روووووعة بجد
Post a Comment