في إحدي الأيام التي عشتها حيا ومقتولا وثملا بالقهوة ومنتبها بالنوم حدثت هذه القصة ..
عندما تستعرض حياتك أمامك في لمحة ضوء سريع او شريط عابر احيانا تسوقفك بعض الايام منها وتعطيك اشارة او ضوء من بعيد كانه الفنار..أسميه أنا "فنار العمر"..
تلمح من بين ذكرياتك سفن تحمل اجملها كما تحمل براميل النبيذ ويشير الفنار اليها فتحاول ان تنظر اليها بعمق وتأمل وغالبا ما يسبقها تنهيدة !
كنت مع عدد من الاصدقاء ومنهم "فوقش" كما كنا دائما نطلق عليه في احدي المصايف ..نسكن احدي الشقق في تلك الايام في المصيف وتسكننا الأن ذكريات هذه الايام بلا "إيجار" ..
وكان لي "موبايل" كان حينها حديث لكنه قديم جدا الأن وكان يحمل بعض الرسائل..لا أعرف لماذا لا انقلها الي اي مكان أمن..فكل هذه القطع لا امان لها قد تسقط فجأة او يغرقها الماء فلابد من الحذر..
وكانت معظم ذكرياتي الاقدم علي هذا الهاتف ولكن كنا نجري علي شاطئ البحر او نلعب بالكرة وسقط الهاتف علي الشاطئ واغرقته الماء..
أمسكته بسرعة وحاولت فتحه عدة مرات ولكن للأسف كان الوقت قد مضي..
الكل كان يتعجب من طلبي..فقد كنت فقط اهتم بما عليه من "رسائل" ولا اهتم بالهاتف ذاته ..
لدرجة ان ذهبت مع اصدقائي الي من يصلح الهاتف وقلت له "اديك اي مبلغ ..مستعد اديك الموبايل ده لو جبتلي الرسايل اللي عليه" ...
نظر الي الرجل بدهشة كانه يري احد المجانين امامه وقال "هأحاول" ..
ذهبنا في يوم لاحق الي هذا الرجل وكنت اعيش هذه الفترة علي أمل واحد.."عودة الرسائل" ..كانت رسائل في عصر التكنولوجيا نعم ولكنها بالنسبة لي أتتني من "حمام زاجل" .
جائتني من "أميرة اندلسية" ولم يكن بها الا كلمات معدودة ولكنها كانت تعني لي كل شئ ..
لم اكن اود ان افقد هذه الرسائل ..لاني كنت دائما أكره ان يحاصرني "الفقد" و "الافتقاد" في وقت واحد..
واقول لنفسي دائما لو صلبت حياتي بين فقد وافتقاد فحينها اصبح قربانا عن ذنوب العالم لان عذابي كبير.
كنت انتظر رد هذا الرجل وذهبت اليه مسرعا كأنني أسير علي جمر من لهفة او أرقص كراقصة هندية علي زجاج مكسور ولا اتألم رغم ان الدم يسيل من قدمي..
وكان رده باختصار "مافيش أمل خد جهازك"..!
كان أهون علي في تلك اللحظة ان القي الجهاز في البحر ليغوص فيه ويموت غرقانا كما قتلني الشعور بالافتقاد لهذه الكلمات في الرسائل التي احفظت بها طويلا جدا حتي أخذها البحر ..
كنت أتألم من داخلي بشكل لا يتخيله الا أسير مذلول في معسكر عدو يلقي اليه الطعام علي الارض كالكلاب..
قطعت الرحلة وعدت منتشيا ..ليست نشوة السعادة ولكنها ضحكة خرجت مني في رحلة عودتي كأنه الجنون من الحزن..
عدت من هذه الرحلة أجلس بين الاوراق اكتب كالمجنون ..كأنما قد أصبح القلم مسعورا يأكل لحم الأوراق ..
كأنما غسلتني الملائكة بالليمون والعنبر لأعود من جديد لنفسي واصنع ذكرياتي بيدي..
أكتب كي أسجل لنفسي وللعالم احساسي بما افتقدت وبما عانيت في فقده وما لا يعرفه العالم عن ما فقدته ..
لا يعرف الا "فوقش" لأنه ذات مرة قد شاهد تلك الرسالة وانا أقرأها للمرة المليون مع نفسي..
كان هو الوحيد الذي يعرف حينها ماذا أخذ البحر مني ..
ان فقدت "سن" من اسناني فقد اطلب تعويض الشمس "يا شمس يا شموسة" ..ولكن حين يأخذ البحر منك "رسائلك وذكرياتك" فكيف أطلب التعويض !
كانت "حريتي" في حبسها الانفرادي وبسمتي في مصباح سحري في قاع البحر اريد ان يبحث عنه كيوبيد ويحاول ان يفرك المصباح كي تخرج تلك البسمة وتحقق اماني العشق والغرام !
"معظم النار من مستصغر الشرر" كما يقول الشاعر..وناري أكبر من أي شرر قد تتخيله ..
ألقيت الهاتف فعلا ولم أستطيع ان اتحمله اكثر من هذا بدون الرسائل ..فكيف تتحمل انسانا بلا قلب ! هكذا كان الهاتف بالنسبة لي ..دائما كان صديقي لما يحمله من ذكريات فان فقد رسائله فقد صفة الادمية التي وهبتها له والقيته في اليم .
كان "فوقش" يعلم عظيم مصابي ووجعي في حينها وسألني اكثر من مرة بعدها "عملت ايه في التليفون" !
ابتسمت وقلت "رميته في البحر" .
مرت الايام والشهور والسنوات علي هذا الحادث ..
قصة صغيرة تحمل وجع الدنيا ..وكم من القصص الصغيرة تترك الألام الكبري في النفوس والأوجاع في كياننا ..
والكل يري في البحر "رسائل" في زجاجات ..ولكن قد يجد البعض هاتفي..
ولكنه ان وجده وتم تصليحه ووجد رسائلي..فسيجدها الان "من مجهول"..
فمن أرسلها .."ذهب مع الريح"
ومن عرف سرها صديقي "فوقش" "استشهد"
ومن ارسلت اليه "قتله الحنين"
غريب جدا أن صاحبة الرسالة هي "الجنة"
ومن عرف سرها "في الجنة"
ومن فقدها "في النار"..
هل عرفت سر الرسالة !
حاول .
5 comments:
لما ضاع منى اول موبايل فى حياتى حزنت جداً على هذه الذكريات ثم قلت لنفسى ان الذكريات التى لا تأثيير لها فى عقلى وتحتاج منى شئ اذكره لا داعى لها احسنت ايها المسحوب
جااااااااااااااااااامدة جدااااا القصة ..دمت مبدعا
بعض الذكريات تعترضك بعد إنتهاء الحكايه يتجسد أبطالها ...تستشعر أنفاسهم حولك ..ينادونك فى المساء بأبواق الحنين فتغمض عيناك بقوه وتفتحهما تصتدم اكثر باحساسك بلمساتهم ...تجرى تفتح صندوقك القديم تنظر على أشيائك التى تحديت بها يوما الحروب الألكترونيه فتجد كل شئ اهديتهم اياه حتى رسائلك ..تستيقظ متيقنا فقدهم فما يحتويه الصندوق يخصهم وبالرغم من ذلك فهو داخل صندوقك مغلق الى الأبد
كم كنت غريبا وقتها و كم كان قلمك غزير الكلمات. كم كنت كطيف لامع او كظبي جامح..
جميل يا مسحوب لسانك اخرج لنا صورا جميلة الليله
شكرا يا جماعة ..ساعات الذكريات بتكون متعلقة بأبسط الاشياء حتي لو قلم كتبت بيه جملة وكانت اجمل جملك او مكان قعدت فيه او حتي قميص لبسته بتحصل بينكم علاقة الفة غريبة يمكن البعض بيسموها "وشيجة"..
الذكريات احلي شئ جوانا البعض ممكن يقول ده "ماضي" لكن للبعض الذكريات بتفضل حاضر ومستقبل .
Post a Comment