لم يكن الدكتور رامي يتوقع أن يعيش في احدي القصص التي قرأ عنها دائما ..فعندما يقرأ أحدنا قصة قصيرة أو رواية لا يحلم أن يكون جزءا منها الا لو كانت رومانسية ..أما القصص الدرامية الكئيبة فيتركها الجميع لحكم الدموع وأشجان القلب .
كان الدكتور رامي في احدي الليالي يسهر في المستشفي كعادته ويتصفح الكتب التي يفضلها ويقول لنفسه كالعادة : "اه بجد مش عارف الراجل ده كتب الرواية دي ازاي ؟ بجد مش عارف ؟ "
قاطعه صديقه علاء قائلا :بتكلم نفسك يا رامي ولا ايه ؟ هو مين ده اللي مش عارف عمل كده ازاي ؟
رامي: يا أخي كل مرة اقرا لهمينجواي أسأل هو الراجل ده انس ولا جن ..بجد جنني خلاص مش ممكن تكون دي كتابة بشرية ..ده مستحيل ..
علاء: خلاص هدي نفسك يا سيدي..اقرا براحتك بس شوف الحالة الجديدة اللي جاية المستشفي اللي كله خايف منها وبيقولوا اصعب حالة..
رامي: اه زي كل مرة بيقولوا اصعب حالة وبتتحل في الاخر وبنعرف سبب عقدته.
علاء: لا يا رامي دي حالة اغرب من الخيال ..انت شوفت فيلم k-pax
رامي: بتاع كيفين سبييسي ؟؟ ده فيلم قوي جدا ..بس اوعي تقولي ان ....
قاطعه علاء : بالظبط كده..شبه الحالة دي كده..عرفت بقي اننا في ورطة المرة دي ومش سهلة ؟
رامي: بس في الفيلم كان المريض مقتنع انهم هينادوه من كوكب تاني وان ده مش وطنه ودي مش ارضه..
علاء: هي نفس الفكرة بس مريضنا المرة دي مقتنع ان وطنه الأصلي "حبة رز" وانهم هينادوه وهو مستني النداء ده
رامي مندهش : نعم يا اخوياااا؟؟؟ حبة رز ؟؟؟؟؟
علاء: أيووووه انا استغربت زيك كده بالظبط عشان تعرف قد ايه المشكلة اللي احنا فيها المرة دي وانها عايزة صبر ويمكن تستمر فترة طويلة جدا علي ما نعرف مشكلته ونفك اللغز
رامي : وجيبتوه منين ده ؟ يعني مالوش عيلة او اهل ؟؟
علاء: للأسف مقطوع من شجرة وكان بيحدف الناس بالرز وبيمسك حبة الرز ويقول عليها طيارة ويلف في الشارع ويقول "الطيارة بتطير فووووووو"
رامي : انا لها..هو صحيح انا كنت بخاف اعيش في جو افلام "السيكو" بس انت شوقتني ..وخصوصا اما قولتلي انها شبيهة بالفيلم اللي بموت فيه ..
علاء: اسأل دكتور حمدي اذا كان هياخدك معاه في فريق الحالة دي ..انت دكتور متميز وتستاهل ..وتقدر كمان
رامي : شكرا يا علاء..
لم يكن راميي يعرف ما تورط فيه وانه وضع قدميه علي اول طريق الخوف بإرادته الحرة ..لم يكن يعلم أي مخزن ذكريات يتغذي عليه هذا الرجل الغريب الجديد الوافد الي المستشفي وهل سيستطيع ان يركب معه مراكب حياته كما قالت احلام مستغانمي ""مراكب محملة بالأوهام عادت .. و أخرى بحمولة الحلم ذاهبة " !!
سار رامي وسند رأسه الي جدار المستشفي وهو يراقب الحالة من بعيد وتدمع عيناه وهو يحزن لحالة المريض الجديد ويقول لنفسه ابيات لصلاح جاهين :
يا قرص شمس ما لهش قبة سما
يا ورد من غير أرض شب و نما
يا أي معني جميل سمعنا عليه
الخلق ليه عايشين حياه مؤلمة
عجبي !!!
ووقع عليه الاختيار مع فريق طبي لاكتشاف حالة المريض "ياسين " وبدأت الجلسات فيما بينهم وأول حوار :
رامي: احنا اصحاب يا ياسين مش كده ؟
يرد ياسين عليه ويقول له : انت مش مصدقني زيهم
رامي : انت هتشرحلي ازاي انت عايش في حبة رز
ياسين انت شايفني مجنون زيهم..بس اسمع..انت غيرهم ايوه انت غيرهم.انا سمعتك وانت بتقول شعر صلاح جاهين جنب الجدار..
رامي : انت سمعتني ؟
ياسين : ايوه..انا بحبه..ده من شعراء الرز ..عايش معايا في حباية الرز ..
رامي: ومين كمان عايشين معاك هناك ؟
ياسين : نزار قباني وناس كتير..حياة كاملة بس ناقصها بشر..
رامي : انت فيلسوف مش مكانك المستشفي دي بقي..
ياسين : انا مش مجنون..كل الحكاية اني عايزهم يسيبوني ارجع للرز وادخل في الحباية ..
مش انت بتحب صلاح جاهين ؟
رامي : جدا ومين ميحبوش ؟
ياسين : طيب سمعت اما قال :
أحب أعيش ولو في الغابات
أصحي كما ولدتني أمي و ابات
طائر .. حوان.. حشرة .. بشر ..بس أعيش
محلا الحياة.. حتي في هيئة نبات
عجبي !!
رامي: الله عليك..
ياسين :شفت انه كان ممكن يعيش حتي في هيئة نبات..؟ طيب ليه انا بيعتبروني مجنون عشان عايز اعيش في حبة رز ؟
رامي: هتسيب الكون ده كله وترحل في حبة رز
ياسين : نوح ساب الكون ده كله وهاجر في سفينة
رامي: بس ده امر إلهي
ياسين : وده أمر برضه بس مقدرش اقولك من مين ..يمكن من مكان بعيد في حبة الرز بيناديني سميته "دير ياسين" زي مكان جرح اوطاننا القديم ..انا لازم ارجع دير ياسين في حباية الرز..
توالت الجلسات بين رامي وياسين علي مدار أكثر من سنتين وتوالت الاشعار ما بينهم وحكايات عن همينجواي الذي يعشقه رامي لم يكن رامي في جلساته يعتقد انه يحاور مجنون فكل كلام ياسين كلام متزن جدا الا حكاية "حبة الرز" التي اصبحت اللغز الذي يريد ان يكشفه رامي ليس للمستشفي بل لنفسه اولا..لأنه أعتنق الحكاية اكثر مما يعتقد حتي أصبح جزءا منه وكأنه اصبح يعيش مع القصة دور الضحية وتلك القصة هي القاتل ولكن يعيش الان حالة "التوحد مع القاتل" !!
وفي إحدي الايام بدأ رامي يراقب ياسين دون ان يشعر وجده في ذات مرة يخبئ شئ ما وينظر اليه ثم يخبأه مرة اخري كل فترة ..لم يدري رامي ما يخبأه..هل خبأه ياسين او ان هذا الشئ هو ما يخبأه القدر لحل اللغز اخيرا بعد كل هذه الفترة ؟؟..
خرج ياسين الي ميعاد الطعام كالمعتاد وبدا في شجاره المعتاد مع اي منهم يأكل حبة رز واحدة والتي اعتبرها مقدسة ولا يمكن اكلها واخذوه لجلسة الكهرباء وفي اثناء ذهابه لمح غرفته المفتوحة ولمح رامي في غرفته يمسك في يديه صورتين ويدمع..
ويصرخ ياسين وهو محمول ومربوط لاجل جلسته : بتعمل ايه في اوضتي يا رااااامي؟؟ مش قولتلي احنا اصحاب ؟؟؟ انت بتراقبني يا رامي؟؟ انت خااااين يا رامي..انت منهم يا راااامي
صرخ رامي في كل من حوله : سيبوه .سيبووووووووه..
ذهل كل من في المستشفي وقال الطبيب اشرف : مالك يا رامي..نسيبه ليه ده لازم ياخد الجلسة لانه النهاردة عمل نفس التصرفات العدوانية بتاعته
قال رامي في هدوء : سيبوه يروح لحبة الرز..ولو يوم واحد وهو هيخف علطول..سيبوه يروح دير ياسين..
كانت الاجابة التي فتحت عيون الجميع من الدهشة ونظروا الي الدكتور رامي معتقدين انه اصيب بالجنون هو الأخر ..وبدا الجميع يتهامس بينما جلس رامي علي كرسيه كانه اصابه صاعقة وسقطت من يديه صورتين لرامي مع حبيبته ..
إحداهما وهما يقفان وخلفهما محل مكتوب عليه "اكتب اسمك واسم من تحب علي حبة الرز"
والأخري صورة في المطار وهي تسافر وهو يودعها ..
وعرف أخيرا رامي سر "حبة الرز الطائرة" ..وسر حنين رامي لحبة الرز..
وقال لنفسه : "ده مش مجنون..كلنا عايشين في نفس حبة الرز دي " !
No comments:
Post a Comment