Friday, March 28, 2014

مدام سهــيلة..الأم المثالــية....قصة قصيـرة







ابريل 1995 :

مدام "سهيلة" أرملة وحيدة لم تشتك يوما من وحدتها ..فالبعض لا يشتكي الوحدة لانه وحيد حتي في شكوته !..لا تلتقي كثيرا بإبنها الأكبر والوحيد "أدهم" لأنه مسافر في الخارج في احدي البعثات ويكفيك ان تنظر الي جسدها الغائر النحيل وعينيها المنحولتين كي تعرف ما تعانيه من الم الاشتياق والحنين الي "أدهم" ..كانت لا تفارق "السيجارة" وفنجان القهوة في كل يوم في تمام الخامسة وتجلس امام سرير ابنها وكانها تحكي له ما تود ان تقوله ..وفي احدي الليالي التي تدور في مدار دموعها قالت امام سريره وكأنها ترسل خطاب له :

"إبني العزيز أدهم /

لا أعرف هل احدثك بصيغىة العقل الرسمية واقول "تحية طيبة وبعد" ام اخاطبك بلغة قلب الام واقول "تحية طيبة وبقبل وبعد والي الابد"  ..أشتاق اليك يا بني وشوق الأم لا ينهيه زمن ولا يغربه وطن..انت يا ولدي قطعة من لحمي خرجت الي الحياة كي تعيد تكويني وصياغتي ..هل تذكر هذا القميص الأصفر الذي ارتديته في عيد ميلادك العاشر وسكبت عليه الوانك حينما قلت "أمي علميني الرسم" ..لم اكن حينها أعرف شيئا عن الرسم ولكني وجدت نفسي ارسم ارسم بلا وعي ولا اعرف حتي ما ارسمه ولكنه طلبك يا بني ولا استطيع ان ارفضه حتي وان كنت اجهله ..طلبك علم حتي وان كنت جاهلة به..طلبك حياة لي حتي وان كان كالخل الوفي..طلبك تحقيق لذاتي قبل ان يكون تحقيق لأمنية طفل .

لا اعرف يا ادهم ماذا تغير ..لماذا فضلت العقل علي العاطفة..هل سول لك عقلك ان تهجر امك من اجل بعثة..؟؟..انه صراع مرير سقطت فيه انا من قبل حينما تزوجت والدك..لقد غلبت حينها قلبي يا بني علي عقلي..أبيك كان رجل فقير شبه معدم ولكنها التضحية يا بني ..كنت اعرف اني استطيع ان اخلق منه رجل ناجح ..قالوا وراء كل عظيم إمرأة..نعم هذا صحيح ووراء كل قصة حب رغبة وحلم ونجاح..رغباتنا تتجسد يا أدهم في عيون من نحب فنحاول فعل المستحيل لرسم ابتسامة سعيدة علي شفتيه ..نحن نحقق احلامنا حينما يتحقق لنا الحلم الأكبر وهو الارتباط بمن نعشقه..

لماذا تركتني يا ادهم كل هذه السنوات ؟؟ نعم انه العلم..ولكن ماذا عن امك الوحيدة الأرملة التي تركتها تعانق الاحزان وفناجين القهوة السوداء وكأنها ترتدي فستان سهرة الشماتة الاسود وتنظر الي بقاع فنجانها الاحمق وتقول "امامك سكة سفر..ولن يعود يا حمقاء" !!

ماذا ان رحلت يا ادهم؟؟ ..الم تفكر يوما في أنني قد اموت ولا تعلم؟؟..انك لا تحدثني حتي علي الهاتف الا قليلا ..كيف هنت عليك يا ادهم لهذه الدرجة..هل تذكر هذا الصيف الذي رشحوني فيه لجائزة الأم المثالية ؟؟ لم أفرح حينها بهذه الجائزة مثلما فرحت بقبلتك التي طبعتها علي رأسي امام الجميع في الحفل..نعم يا أدهم إن الام تعيش ولا تشعر بالحياة الا بقبلة دافئة علي يديها او رأسها من ابنائها..انها الامومة يا ادهم أجمل احساس اعيشه معك الي الابد حتي وان كنت بعيد عني يا ابني يا حبيبي..


مايو 2000 :

ظابط شرطة : هل انتي متاكدة يا سيدتي ؟

الجارة: نعم ارجوك افعل شيئا لقد شاهدوها ولا نعرف مالذي حدث تحديدا..

الظابط: لقد جائتنا بعض الاقوال عن الحادث ولكنا سنذهب الي الشقة لنري بأنفسنا تستطيعين الانصراف ..


يونيو 1996 :

في نفس المكان الذي فازت فيه بالام المثالية سابقا :

تصفيق حاد من الضيوف واصوات "برااافو...هاااايل"

المذيع : والأن حان الوقت لاختيار الام المثالية لهذا العام وهي السيدة .....

تدخل فجأة مدام سهيلة وتخطف منه "الميكرفون" وتقول : نعم نعم ..انا طبعا..انا الام المثالية ..أليس كذلك ؟؟ هل تذكرونني لقد حصلت علي الجائزة من قبل منذ اعوام..ااااه ماذا أقول بالتأكيد تذكرونني جميعا ..وهل ام مثلي تضحي من اجل ابنها وتصنع من زوجه رجل ناجح وعظيم من بعد وجع الفقر وتستطيعون نسيانها..لا يمكن طبعا...نعم نعم..انا الام المثالية مبروك لكم ولي

صوت همهمات في القاعة ثم بدا الصياح

احد الضيوف : اخرجوا هذه السيدة المجنونة من هنا

المذيع: هدوء من فضلكم..ارجوك يا سيدتي لا تحرجي نفسك اكثر من هذا ..الجائزة ستنالها مدام "منال" ولا احد يعرفك في النادي ..ارجوك تفضلي قبل ان اضطر لطلب الأمن

تخطف منه الميكرفون في غضب : "مدام منال" ؟؟ حقا..وماذا فعلت هي ولم أفعله...هل اجلسته علي فراش وقدمت له القرابين مثلي ؟؟ هل نثرت الزهور علي جسده وجعلت الفراشات تحوم حوله مثلي ؟؟ ماذا فعلت هي؟؟ أنا الام المثالية دون شك ايها المغفل البائس..


يتعالي الصياح في القاعة ويحذرها المذيع : ارجوك لا داعي لهذه الطريقة ولا داعي لاستعمال العنف ..اخرجي في هدوء قبل ان نضطر لاستخدام وسائل اخري..

يدخل الامن الي القاعة ويخرجون مدام "سهيلة" وهي تصيح في انهيار عصبي حاد.."العاطفة ايها الاغبياء...انتم تحكمون بالعقل مثله...انهم يحكمون مثلك يا ادهم بالعقل..ولكن لو الجائزة بالعاطفة لفزت انا علي نساء العالم اجمع ايها المجانين"


مايو 2000 :

تقتحم الشرطة شقة مدام "سهيلة" ..ويقول الظابط لجارتها من العمارة المقابلة لها: هل انتي متأكدة ؟ أسألك للمرة الاخيرة

الجارة: نعم سيدي ستري بنفسك انه شئ غريب وعجيب ونادر

الظابط: ان كنتي تكذبين ساضطر لتحرير محضر بلاغ كاذب..

الجارة: انني لا اقول الا الحقيقة وستري بنفسك اغرب مشهد

يقتحمون الشقة ويحطمون الباب ويقول الظابط: في اي غرفة تحديدا ؟

الجارة: هنا خلف هذا الباب

يصيح الجميع في دهشة : ياالله !!!!! ما هذا؟؟؟؟ انه افظع ما رأيت

الظابط: اخرجوا جميعا

الجارة تصيح مذعورة في خوف بالغ : انه...انه....مستحيل....لا يمكن اطلاقا ...يالجنون العالم ....كيف!!!كيف!!!!



يونيو 1996 :

تجلس مدام سهيلة وتقرا من ورقة كتبتها في صيغة رسالة :

ابني الغالي أدهم ..

هل تعرف انهم لم يذكرونني في النادي..منذ ان صرت ارملة ولا احد يهتم بي..صرت وحيدة تماما...ابوك كان يملئ علي لاحياة وانت ايضا ..ولكنك هجرتني بعقلك وهجرني هو بفعل القدر..لم اخلع اللون الاسود منذ وفاته يا ادهم...لقد إختاروا إمراة اخري كأم مثالية يا دهم وتركوني انا ..انا التي ضحيت وفعلت المستحيل هاجموني ولم يعرفني احد في الحفل بل وطردوني يا ادهم..
لقد بكيت يا حبيبي حتي ضعف نظري بعد هذا الحفل..ليس حزنا علي الجائزة يا صغيري ولكن حزنا علي عدم تقديرهم لما كنته في حياتك يا ادهم..هناك امهات تلعب دور في حياة ابنائها ولكني حياتك يا ادهم وانت حياتي يا ابني..انا لا العب دور يا ابني ولكن انا القصة نفسها وانت تفاصيلي الكاملة وحبكتي ونهايتي وبدايتي..

هناك جارة لي يا ادهم تضايقني كثيرا اشعر بانها تتلصص علي ..اغلق الستائر لاكتب رسائلي في هدوء ..جارتنا التي تسكن في العمارة المقابلة لنا ..وكانها تراقبني في وحدتي ولا اعرف ماذا تريد هي ..قالت لي في يوم من شرفتها "هل تحبين الفراشات" ..تعجبت من السؤال ..ولكني عرفت انها تتلصص علي وتري الفراشات التي اطلقتها في حجرتك يا صغيري ..نعم اني لو لم الون حياتك فاني الون شئ من رائحتك يا ادهم وهو غرفتك..فرشتها بالزهور وملئتها بفراشات صغيرة تحوم حول المكان وكاني اخلق من ذكراك جنة عدن يا حبيبي..



مايو : 2000 :

في احد اقسام الشرطة :

الظابط: تستطيعين ان تحصلي علي مكالمة للمحامي ان اردتي

مدام سهيلة : عن ماذا سيدافع وما هي قضيته..انتم مجانين انا لم افعل شئ..

الظابط: حسنا لنفتح المحضر وارجو ان احصل منك علي الاجابات

مدام سهيلة: حسنا ولكني لم افعل اي شئ ولا اعرف سبب وجودي هنا..هل من اجل اقتحام حفل الام المثالية ؟

الظابط: عن اي حفل تتحدثين ؟

مدام سهيلة: حسنا تستطيع ان تسأل

الظابط: متي اخر مرة زارك فيها ادهم

سهيلة : منذ حوالي خمس اعوام

الظابط: وهل كانت اول مرة منذ زمن ؟

سهيلة: نعم لقد غاب عني فترة طويلة ولم يسال عني ابدا في غيابه حتي جننت من اجل ان اراه...ااااه يا سيدي كم افتقده الأن

الظابط يصيح :  ادخلوا الشاهدة..

تدخل جارتها في العمارة المقابلة وهي مذعورة وتقول : ايتها المجنونة ..سينتقم منك الرب ...اه ايتها المختلة المأفونة

سهيلة: ايتها المتلصصة الحمقاء هل وشيتي بي ..هل كنتي تراقبينني ؟

الجارة: اخرسي ايتها الفاجرة الوقحة المريضة

الظابط : هدوء لو سمحتم..متي كانت اخر مرة رأيتي فيها ادهم عند امه ؟

الجارة: منذ سنوات اخر مرة وهي كانت المرة الوحيدة وقالت انه سافر بعدها مرة اخري للخارج ليكمل بعثته

الظابط: وكانت تعيش وحدها كل هذه الاعوام دون حتي زيارات ؟

الجارة: نعم حاولت مرات ان ازورها فكانت تعتذر مني دائما فقلت انها تحب العزلة ولم ارد ان ازعجها ..

الظابط: وهل كانت دائما تسدل الستار ؟

الجارة: نعم ..دائما وبمواعيد منتظمة بالثانية الا مرة واحدة نسيت فيها الستارة مفتوحة وقامت بما تقوم به امامي ..وعرفت بمراقبتها انه طقس يومي تفعله

الظابط: وهل رأيتي لحظات وقوع الجريمة ؟؟

الجارة: لم اري الجريمة ولكني ظننتها في البداية مع رجل غريب الي ان رأيت بنفسي الجسد بعد ان اقتحمتوا الشقة وانا معكم



في احدي السجون الخاصة بالنساء عام 2000:


السجينة سامية: ابتعدوا عن هذه المجنونة انها خطيرة جدا

السجينة تهاني : ماذا فعلت ؟

سامية: يقولون انها قتلت ابنها الوحيد وتركت جثته تتعفن في غرفته خمسة اعوام كاملة

تهاني: هل حقا فعلتي هذا ايتها المجنونة؟؟ ان مكانك مستشفي الامراض العقلية وليس هنا

سهيلة: ابتعدوا عني..ابتعدوا عني انا الام المثالية...انا الام المثالية لكل الاعوام..

سامية: انها مريضة حقا..لقد قالوا انه كان لا يزورها ابدا وحين زارها مرة قتلته وفرشت له غرفته بالحرير واطلقت فيها الفراشات وملئتها بالزهور بكل انواعها

تهاني: ياللعجب ..اي قلب هذا ؟؟ تقتل ابنها الوحيد ؟

سامية: بل انهم حين اقتحموا بيتها وجدوا الاف الرسائل التي كانت تكتبها له وكانه في الغربة وكانت تقف كل ليلة تقرا له رسالة وتقدم له هدية كل فترة حتي انهم وجدوا الغرفة مليئة بالهدايا المكدسة في كل مكان حول الرسائل

تهاني: وكأنها تقدم له القرابين

سامية: لقد شهدت عليها جارتها حينما رأتها مرة هذا ما سمعته


مارس 1995 :

سهيلة: لا اصدق نفسي هل عدت حقا يا ادهم يا صغيري؟؟

ادهم: نعم يا امي لقد عدت كي اراك لمدة اسبوع كامل

سهيلة: اسبوع واحد يا ادهم؟؟غبت عني سنوات لتراني اسبوع؟؟ اين قلبك يا بني ؟؟

ادهم: يا امي العمل ثم العمل ثم العمل ..وانتي دائما في القلب صدقيني

سهيلة: ولكني اظن انك ستجلس معي الي الابد هذه المرة يا صغيري اليس كذلك ؟

ادهم: كيف يا امي؟؟ لابد ان اكمل رحلة نجاحي في الخارج

سهيلة: وماذا عن رحلة نجاحي اان في قلبك يا ادهم ؟

ادهم يتهاوي من الصدمة : ما هذا يا امي ؟؟ اتحملين مسدسا ؟؟

سهيلة: انه كاتم للصوت يا ادهم كما تكتم عني عاطفتك وتلقيها بين كتبك واوراقك

ادهم "يبتلع ريقه بصعوبة وينظر مشدوها" :  امي...دعينا نتحدث بهدوء

سهيلة: لا يوجد وقت يا ادهم لقد حضرت غرفتك يا صغيري ..لقد حضرت لك الفراشات التي كنت تحب ان تراها في الحديقة وانت صغير والهدايا التي كنت تحبها في كل عيد ميلاد..وكل عام ساعطيك منها هدية يا حبيبي

ادهم "يحاول الهرب" : امي ..امي ...لا لا....اااااه



المحضر يقول انها 4 رصاصات نافذة من صدره..بينما تؤكد سهيلة في السجن انها رصاصات الرحمة لعاطفة قد باتت قاب قوسين او ادني من الموت في قلبه..لقد قال الظابط انه رأي فوق جثته علي السرير الحرير وفي وسط الفراشات ورقة كبيرة مكتوب عليها :

"هنا قبر عاطفة الغريب القريب ادهم..قربتنا العاطفة وغربتنا الحياة..فأردت استعادة الحياة من صدره" !!


No comments: