Saturday, September 14, 2013

اصبغي شعــرك باللــون الأحمــر من أجــلي...قصة قصيرة





"اصبغي شعرك بالأحمر من أجلي..صدقيني سيكون الأفضل"


هكذا كنت أقول لها دائما..ولكنها اقتنعت في البداية ثم نزعت الفكرة من رأسها بملقاط في النهاية..هل تظن انها رغبة في تحسين مظهرها او الاهتمام مثلا باخر صيحات الموضة ؟؟ " فريدة" بالفعل هي اخر صيحات الموضة ولا تحتاج الي اي تجميل فوق جمالها الرشيق الدافئ..

أين أنا الأن ؟؟ ربما تسألون  حتي من أنا؟؟ هكذا يسأل الجميع كلما مررت في حارة او هربت الي عطفة او حتي خرابة..انا مطارد حتي النخاع..مطارد من الشرطة والضمير والحب..
اسمي "ياسين الوكيل" من اسرة ميسورة الحال وهو المصطلح المخفف لكلمة "برجوازية" ان اردت التعبير بذلك..وهذا الدفئ المالي جعلهم لا يهتمون كثيرا بحال البلد..فأحيانا كثرة المال تقتل فينا الاحساس بمشاكل الأقل منا..إلا أنا كنت دائما أطمح في أن أجعل هذه البلد جديرة بالعيش فيها..وطن حقيقي وليس كما هو حال الاوطان في الاغاني الوطنية التي تشعر بعدها انك ملك العالم وانت تعيش في وهم الملكية !

يسألونك عن "فريدة" ..قل هي حبيبتي ..
"فريدة التهامي" من اسرة متوسطة الحال سليلة حسب ونسب سياسي وليس اجتماعي..معظم افراد عائلتها مناضلين او استشهدوا في حروب او عمليات فدائية ايام الانجليز..بلغة هذا العصر تستطيع ان تقول ان فريدة هي "الاميرة ديانا" في رقة القلب والتعاطف مع الفقراء..بالاضافة لنضالها الدائم وحروب الكلمة التي تخوضها في صحف عديدة..

كان حبي لفريدة حب من اول نظرة ايام الجامعة..رغم انشغالها بالسياسة" وكنت اري هذا ضد طبيعة المرأة عموما ان يكون الانشغال لهذه الدرجة " إلا اني رأيت في عينيها ان "لا عاصم لي من العشق"..

بدات اتقرب الي الاسرة الجامعية واسمع الافكار عن الحرية والمساواة ..جعلتني أقرأ لفولتير وروسو وجون لوك وغيرهم ..بدأت اخذ منحي مختلف في حياتي وهكذا يفعل الحب في العشاق..يحيد بك عن دربك لتبدأ البحث عن طريق جديد علي يد معشوقك..
"كل الطرق تؤدي الي روما هذا بلغة الخرائط..وكل الطرق تؤدي الي العشق هذا بلغة القلوب".

صارحتها بحبي وقالت انها شعرت بي منذ البداية وان افكارنا اصبحت متقاربة ..سألتني في مرة : هل حقا تؤمن بأفكار اسرتنا ام ان حبك هو الذي جعلك تؤمن بها؟؟

قلت: في البداية كان حبي والان اقتناعي الكامل ان لا سبيل الا العدالة والحرية والمساواة..


شجعتني كثيرا علي ان اقدم مشروعي لزراعة اراضي صحراوية الي الحكومة وقالت ان معارفي من المهمين ممكن ان يساعدوني في التقرب الي مناصب رفيعة في الحكومة لمحادثتهم ..كان لدي مشروع نراه جميعا انا والاسرة سيغير حال البلد الي الافضل وهنا كلمة السر.."التغيير" انه هوسي وجنوني وشوقي الدائم..انا أسير التغيير ..لابد للعالم ان يتغير ..الله يعطينا نفس الشمس كل صباح ولكنه اعطاك القدرة لتراها مختلفة في كل يوم ..

تستطيع ان تغير العالم بنظرتك وباحساسك وبفعلك..الله اعطانا نفس زقزقة العصافير ولكنه اعطانا القدرة علي سماعها الحانا مختلفة ان اردنا في كل مرة علي الاغصان..

التغيير والتجديد في العالم امرنا به الله وامرنا ان نفكر ونبدع ونخلق عالما جديدا ونتطور..ولكن هذه البلد لا تتغير ..هذا الوطن الذي شغلته الاوبريتات عن الرؤساء عن اوبريت الجوع والصخور المهزومة في الدويقة والعشوائيات..هذا الوطن الذي شبهوه بإمرأة ولكن الزعماء يغتصبونها كل صباح مع فنجان القهوة..هذا الوطن الذس قالوا عنه "أمي" ثم لا يسهر علي راحتي ابنائه كما الامهات ولكنه ظل يخيفنا كما "امنا الغولة" بفعل من يملكون زمامه..

لماذا تموت الحقائق في وطن المصادفات؟؟الا يمكن ان تكون الصدفة حقيقة يا فريدة؟؟هكذا سألتها في احدي المرات التي جمعتنا في كافيتريا الجامعة..

قالت : وصدفة حبنا ؟؟

قلت: لا أؤمن ابدا بصدفة الحب بل اؤمن بقدريته وقدرته..!!

قالت: فهو ليس اختيارا ؟

قلت : هو من اشار لي الي تلك العينان ..وانا الذي اهترت فيهم طريقي..


كانت هذه الايام في السبعينات..نحن الان في عام 2013 ..وانا هارب في احدي الازقة في العتبة كي لا يعرف طريقي احد ..اشعث الشعر ممزق الملابس انام في احدي العشش التي لا يعرف لها حد طريق..ولكن لماذا؟؟

سأحكي لكم باقي الحكاية عندما اقنعتني فريدة بالذهاب لعرض مشروعي ..سألت والدي الذي لم يكن مقتنع بمساعدة الفقراء فالمال سلطانه الوحيد ولكنه لانه يحبني عرفني علي احد اكبر المناصب في الحكومة لاعرض عليه فكرتي..

وفي احدي المكاتب الحكومية في السبعينات :

دخلت الي المكتب الملئ بالأثاث بعد بهو واسع ومكتب سكرتارية ملئ بالحسناوات ..وقالت لي احداهن : اتفضل معالي الباشا في انتظارك..

قلت: معالي الباشا ازي معاليك ..انا سعيد اني شوفت حضرتك وان شاء الله مش هاخد من وقتك كتير..

الباشا: اهلا اهلا يا فريد بيه والدي حدثني عن نشاطك وانا مهتم يا سيدي وكلي اذان صاغية طالما حاجة بتخدم البلد..

قلت: اكيد يا باشا انا متأكد من ولائكم للبلد..

بالطبع قلت كلمتي الاخيرة وانا متأكد تماما من ولائهم للمال وبقايا البلد بعد خرابها في كروشهم السمينة..

الباشا: ومشروعك ده عن ايه يا سيدي الفاضل ؟

قلت: مشروعي خير كبير للفقراء زراعة فدادين في سيناء يقلل من استيراد البلد لبعض المحاصيل علي المدي الطويل وكمان يدي فرص عمل كتير قوي للفقراء من ابناء البلد..

الباشا "ممتعضا" : الفقراء من ابناء البلد هه؟؟ عظيم عظيم..

قلب في الاوراق بعدم اكتراث واضح واشعل سيجاره الكوبي الضخم الذي يشرب فيه جماجم فقراء البلد الذين نتحدث عنهم وينظر الي بسخرية خفية ويقول : طيب يا سيدي انا هاعرضه علي اعلي الجهات وشهر وهاكلمك ونقولك وصلنا لايه بالظبط..


خرجت من المكتب في شبه يأس ..لا اتذكر الا مشهد السيجار الكوبي الذي حرق معه احلامي في مساعدة الفقراء ..وقلت لنفسي "مستحيل ان ينفذ مشروع أمل في حكومة يأس " ..هذه الحكومة لا تريد الا البقاء للأقوي ولا تريد للفقير حياة ولا مكان ولا تريد الا صوت انتخابي ..ان كان حتي الفقير يملكه !!


مرت شهور ولم يتصل بي احد ..مات والدي صاحب العلاقات الواسعة واصبحنا من بعده بلا علاقات تذكر ولا استطيع الان حتي ان اقابل الباشا من جديد لان العلاقات القائمة علي المصالح تكون دائما في انتظار قطعها للتخلص من احد الالتزامات..وفعلا ذهب مرتين الي مكتب الباشا محاولا مقابلته لمعرفة ما سيحدث ودائما كانت الاجابة : "الباشا مشغول"..

"الباشا مشغول"  هي كلمة حكومية بإمتياز..تشعر انه خط تليفوني مشغول امام مكالمات الجوعي والمحرومين..مشغول بعد أموال الفساد والبطش واكوام زبالة الضمير العفنة..

اجتمعت بفريدة والشباب ..تظاهرت من قلبي لأول مرة مع اسرة الجامعة وظللت اصيح بضرورة التغيير ..ولا شئ يتغير..
حبسوني في احدي المعتقلات بسبب المظاهرات..
الموضوع اخذ اكبر من حجمه اتهموني بالتهمة المعروفة "قلب نظام الحكم" التي يتهم فيها دائما كل من هو ضد الفساد..وكيف اقلب نظام الحكم وهو مقلوب دائما ؟؟ واي نظام يتحدثون عنها انها "فوضي الحكم"..

سنوات طويلة لي في السجن لم تزرني الا فريدة وامي حتي توفت في الثمانينات ..وخرجت انا في التسعينات علي عهد حاكم جديد بعد الرئيس الراحل..ولكن لم يرحل الفساد.."رئيس راحل وليس نظام راحل" هكذا هو حال البلد دائما ..

لم يهون علي الايام الا عيون فريدة في زيارتها الاسبوعية ودعوات امي الدائمة التي كانت تلعن الحكومة والفساد والعلاقات القائمة علي المصالح فلو كان ابي حي ما تم حبسي ولكن مات الملك عاش الملك فأول ما توفي والدي ذهبت جميع العلاقات مهب الريح..واصبحت ككل المواطنين "مواطن درجة ثالثة".."مواطن ترسو"..

خرجت في منتصف التسعينات..من سجني علي امل جديد في عهد رئيس جديد..
حاولت ان اعرض مشروعي من جديد لم أيأس ابدا..وهذه هي مصيبتي..فاليأس في بلد اليأس راحة !

في احد مكاتب الحكومة في التسعينات :

نفس البهو وحسناوات جديدة في السكرتارية الا انهم علي موضة التسعينات وليس السبعينات..ونفس الجملة : اتفضل الباشا في انتظارك..
كانت المقابلة هذه المرة بعد اصرار وليس بسبب العلاقات كما في السبعينات ولكن يبقي الحال كما هو عليه..

الباشا الجديد: اه عظيم عظيم..مشروع للفقراء عظيم جدا..شئ هايل حقيقة يا ابني انك تحب تخدم البلد..

يشعل نفس السيجار الغليظ الذي ينزل دخانه علي جسدي كما الكرباج في المعتقلات..لا اتمالك نفسي..لا شئ يتغير..

اصيح بصوت عالي : كفاية فساد بقي..يا نظام اجوف وحقير..

ينظر الي الباشا الجديد في دهشة ويقول : نظام اجوف وحقير ؟؟ مش عاجبك النظام ؟؟ يعني عايز تقلبه؟؟

قلت في غضب: اقلب ايه يا بلد مقلوبة الفاسدين علي قمة هرمها والفقراء قاعدة جثث سنداها..فين قوت الشعب يا شعب القوت؟؟في كروشكم ؟؟


ما الذي حدث بعد تلك المشاجرة التي وصلت للكم بالأيادي؟؟ طبعا حبس جديد ولا تغيير..تهمة جديدة "قلب نظام الحكم" في عصر الرئيس الجديد ..



خرجت في عام 2009 ..سني كبير ولكن فريدة وافقت علي الزواج بي فانا رفيق كفاحها وقلبها..

ويوم الفرح :

فريدة: لا لا ما تشوفش الفستان قبل الفرح ده فال مش حلو

قلت : مش مهم الفستان انتي الفال الحلو..بس يا سلام لو تصبغي شعرك باللون الأحمر..صدقيني مافيش احسن من التغيير..

قريدة: اللي يعجبك يا حبيبي هاعمله..


وبعد شهور من الزواج :

اصبح الموضوع متوحشا ..تذهب فريدة الي احدي العيادات النفسية للشكوي مما يفعله زوجها ..جعلتها مثل المهرج ..كل يوم صبغة بالأمر واحيانا بالضرب..كل يوم تغيير لون المانكير..كل يوم تغيير حتي لون الملابس الداخلية..

صحت في وجهها في مرة وقلت: ايوه التغيير..التغيير اللي انا عايزه احسن من الوقعة اللي انتم عايزيني اعيش فيها..

قالت: يا فريد انا مش عروسة لعبة اشتريتها انا انسانة من حقي ارفض..من حقي أقول لأ

قلت وانا امسك شعرها: وانا من حقي اقول تغيير..مافيش حاجة هتتغير الا بأمري..كل حاجة هتتغير بأمري..سنين سنين ومافيش حاجة بتتغير كا حلجة في الدرج..ليه كل حاجة وكل ملف بيفضل في الدرج.. التغيير هو الحل..

شعرت فريدة اني مجنون وان مرض نفسي ما قد انتابني وبدات ادمن كلمة التغيير بشكل هوسي لأني لم استطع في يوم ان اغير اي شئ..كل الافكار في الحكومة حبيسة الادراج ولا تتغير البلد ولا يتغير النظام وان رحل رئيس..

قاومتني بعنف وامسكت بزجاجة كبيرة تهددني بها لو اقتربت وامسكت الزجاجة ولم اشعر الا وانا اضربها بها علي رأسها ضربة اسقطتها علي حافة المنضدة وخرت صريعة ..

صحت كما المجنون في وقتها وقلت : اهو ده في حد ذاته تغيير..الدم ده تغيير كل حاجة غريبة تغيير..التغيير هو الحل يا بلد ما بتتغيرش..

كنت امسك ملف في يدي اسمه ملف التغيير كتبت فيه كم مرة غيرت فيها فريدة لون شعرها والوان ملابسها الداخلية ..

قالت في مرة: شعري الاحمر افضل ولا الاخضر؟؟اول مرة حد يقول لمراته اصبغش شعرك اخضر..

قلت: هتشوفي معايا دايما اول مرة كتير..


لم اتمالك نفسي بعد ان رأيت فريدة علي الارض ضاعت كل مشاعري ما بين المعتقلات علي كل جدار نبضة قلب اصبحت سوداء لا تعرف الحب ولا تعرف الا لغات الجلادين..واذا تم جلد القلب باليأس ماتت المشاعر..

اخذا الجثة وقطعتها ووضعتها في احدي الحقائب ومسحت الارض مسحا كاملا كي لا يظهر أي اثر للجثة او للدماء علي السجادة..اصبحت فريدة مفقودة..حتي الطبيب النفسي الذي كانت تذهب اليه هي افادني وشهد في شهادته انها كانت تعاني فعلا في الفترة الاخيرة وربما هربت او انتحرت مما ابعد التهمة عني قليلا..

ولكن الخوف اصبح هو سمة حياتي..هربت من بيتي وسكنت في احدي الحارات الفقيرة لم اعد اعرف الا منقوع البراطيش في تلك الحانة المجهولة التي ليس لها موقع علي الخريطة والعاهرات التي اجلس وسطهن في بيت المعلمة جلجلة..

وفي احدي المرات لم اقاوم رغبتي وذهبت الي المعلمة جلجلة وطلبت منها ساعة حظ..اعطتني "سيدة" الشقراء "الملعب" كما يسمونها..وقالتلي "خد دي انت ابن حلال" ..

لا اعرف كيف اكون ابن حلال وتكون بركتي ومكافأتي عاهرة !! من غرائب الناس حقا هذه الجملة ان تقرأ الفاتحة وانت تسرق او ان تدعي الله ان يهديك الي طريق عاهرة !!

الحارة الان مقلوبة..اخبار الصحف التي أقرأها وانا هارب تقول : " وفاة سيدة علي يد مهووس الصبغة"

وصفوني بمهووس الصبغة..لم يعرفوا من انا ولا اي تفاصيل عني فانا كنت هارب وسكنت عند المعلمة جلجلة لانها لا تريد ان تعرف اي تفاصيل عني وهي من عاداتها ان تأوي المجرمين مقابل اجر جيد فهي لم تعرف حتي اسمي الحقيقي ولهذا وصفوني بجملة "مهووس الصبغة" ..الف لون ولون صبغت به شعر سيدة في كل يوم..قتلتها وهي ترفض في يوم ما ..كل من يرفض التغيير سأقتله..نعم جعلوني وحشا وسأرضي بما انا فيه..


ثورة يناير 2011 بعد هروبي لشهور في حارة مجهولة اخري من عشوائيات بلدي..

نزلت اكتب علي كل الجداران .."لا شئ سيتغير ..ما يحدث مجرد تغيير الصبغة..والأصل القذر واحد"..

سامحيني يا فريدة..وسامحيني يا سيدة..
في مجتمع القوقعة لا شئ يتغير الا الوان الشعر !!

No comments: