Friday, June 20, 2014

خــالق الملهمــات..قصة قصيرة






"لن اموت حتي ارتوي حتي الثمالة من جنون الحب..نعم..حتي الموت يعلم ذلك"


الويل كل الويل لك ايها الكاتب حينما يكون لك في كل مكان ملهمة جديدة وشيطان لكلمات الغرام..الويل لك حينما تتأمر عليك الأماكن والأزمنة لتبدل ما كان من ماضي لا يحضر بطيف خصب من حاضر لا يمضي..!

فتح "ياسين" دفتر مذكراته وبدأ في الكتابة بلا رحمة كعادته حينا تسمع صوت نشيجه والمه وحينا تسمع قهقهة مجنونة كانه انقلب ساحر شرير ..كتب بخط ضخم في دفتر مذكراته "حينما تقسو عليك الكلمات كن قاسيا عليها بقتلها بجريمة الحبر الازرق ..جريمة الغرام الازلية..لا تجعل الكلمات تنتصر عليك ..انزف بها قبل ان تنزفك..كن جريحا بها قبل ان تجعلك مجرد جرح احمق"

بدأت حكاية ياسين في احدي "ورش الكتابة" حينما نظرت اليه "هايدي" تلك النظرة المستكشفة له ولقلمه العابث السارح في ملكوت الاوراق..نظرة اعقبها تأمل ثم يد علي الخد الأيمن ثم ابتسامة ..الخطوات الأربعة الطبيعية لخلق "عاشق صحيح" ..

كان "ياسين" يكتب بنهم وهذا هو الوصف الصحيح "النهم والشراهة الكتابية" ..وكان ينظر اليها ولكنه لم يقصد ذلك ابدا..لقد كان غارقا في احلام يقظته ..ظنت "هايدي" الفاتنة الجميلة انها ملهمة الكاتب ولم يخلو الامر من اعجاب وهي تمسك بقلمها وتكتب هي الاخري قصتها الثالثة منذ ان حضرت الي ورشة الكتابة..كان المشهد مشهد غرامي بامتياز..وكأنهم يطارحون بعضهم الغرام علي الاوراق ..وكأنهم يرسمون بأقلامهم حرير ووسائد يتقلبون بينها في حب وولع كامل.

ويظل الحال كما هو عليه..تنتهي ورشة الكتابة ويجلس ياسين في نفس "الكافيه" ليكتب قليلا وتجلس هي في المنضدة التي امامه وتنظر اليه نظرة انثوية مدللة وكأنها تفخر امام انوثتها انها ملهمة هذا الرجل وحامية عرش قصصه . ولم يكن الامر كذلك بالنسبة لياسين ولكنها لم تعلم هذا بعد..ويشتد عود الحب ليتحول الي بدايات غرام وعشق ملتهب من ناحية "هايدي" ..وكانها تقول "اريد ان اجتاح هذا الرجل مثلما اجتحته كملهمة..اريد ان اجتاح عالمه كما اجتحت عالم قصصه واوراقه..لا يكفي لارضاء غروري الانثوي اجتياح ورقة بل اجتياح كيان "

اقتربت اليه في المرة الاخيرة وقالت في دلال يثير اللعاب : ممكن اقعد معاك ولا مشغول ؟

قال في هدوء عجيب : شوفتك كتير

قالت في ثقة مفرطة : حلم ولا علم ؟

قال: لا علم ..انما الحلم سايبه لقلمي

قالت: ومين ملهمة قلمك يا تري ممكن اعرف ؟

قال: وليه لازم يكون فيه ملهمة؟؟ مش ممكن استخدم الخيال ؟

قالت: الخيال بذرة مش هتفكر ترميها وترويها الا اما تلاقي الملهمة

قال: وانتي مين ملهمك ؟

قالت: ممكن يكون الملهم "لحظة" مش لازم يكون راجل بالنسبة الي..

قال: وانا ممكن يكون ملهمتي "زمان" مش واحدة بالنسبة الي

قالت: والملهمة ممكن تخلقلك زمان؟

قال: الزمان هو اللي بيخلقلي ملهمة..هو اللي بيختار مين هي وبيختار حتي لون شعرها ..انتي اسمك ايه بالمناسبة ؟

قالت: هايدي

قال: انا ياسين

قالت وهي تضحك بسخرية ناعمة: ما انا عارفة طبعا, بقالي شهور بحضر معاك الورشة ومش هاعرف مدمن الاوراق يعني ؟

قال: انا مش مدمن للكتابة بس هي حالة بتحضرني كده وبتعذبني والغريب اني لما بخرج منها وارجع للواقع بتضايق جدا

قالت: القتل اللذيذ يعني زي ما بيقولوا ؟

قال: فعلا تقدري تقولي كده

قالت: طيب ما الملهمة هي الواقع ..ليه بتكره الواقع ؟

قال: انا بستوطن الواقع لكن وطني ووطن حبيبتي الخيال بكل تأكيد..

قالت: طيب واللي تاخدك للخيال دلوقتي تشكرها ؟

قال: اكيد بس مين هي..


اقتربت منه في حركة مثيرة وهي تلعب في خصلة شعر عابثة متمردة ونظرت اليه نظرة رغبة عارمة خفاقة دافقة ..وقالت في تحد : هي قدامك دلوقتي ..


خرجوا من ورشة الكتابة ولم يعودوا مرة اخري الا بعد شهر ..وكان الجميع يسأل : هو ايه اللي حصل بين هايدي وياسين ؟؟

تغير الوضع بشكل ملفت للنظر وكانت هايدي تهرب من كل مكان يجلس فيه ياسين امامها علي عكس ما مضي ..وكانت القصة اغرب من الخيال..

منذ شهر مضي حينما قالت له ساذهب بك الي عالم الخيال ذهبوا معا الي منزلها وبتحرر كامل اسقطت اخر قطعة من ملابسها علي ارض طينتها الشهوة وطبقاتها لهيب بركاني عاصف..
كان ياسين مذهولا ولكنه لم يتمالك نفسه وذهب معها الي عالم الخيال حتي اخمص قدميها ..

توالت الايام عليهما في وضع غرام مرتبك علي سرير الملهمة المزعومة ..كانت تظن انها ستكون بطلة روايته القادمة..منحته نفسها في حب وثقة بانها الملهمة الاولي له وهي لطبة كل قصصه حتي قبل ان تقراها..خدعتها الثقة وما اقسي الثقة حين تخدع إمرأة ..

وفي احدي الايام حينما كان يتقلب في فراشها قامت اثناء الليل وامسكت بعض الاوراق التي لا تفارقه ابدا الا اثناء نومه ..كانت عارية الساقين وترتدي قميص "ياسين" في مشهد مثير للغاية..امسكت الاوراق وبدأت في القراءة  وقال ياسين في كلماته :

"نعم انا خالق الملهمات كما يحلو لي ان اسمي نفسي..حينما احببت قديما في ايام الجامعة كانت قصة حب قاتلة لروحي ومنقذة لها ولكن حينما خرجت حبيبتي من حياتي لم تخرج من اوراقي ولم تخرج من قلبي..لقد بقيت ملهمتي لعشرة سنين بعد ان تركتني ..ثم قلت لنفسي "لا امل في العودة" لماذا لا تحصل لنفسك علي ملهمة جديدة..تملأ بها كتاباتك واحلامك الغرامية ..

وبدات في البحث ولكن بالصدفة وقعت عيناي علي "المتمردة" نعم انها الغزال الشارد الذي عاملني بتكبر ..ولك يكن سبب تكبرها الا بسبب القدر..لقد كان الحظ يقف دائما بيني وبينها ..الحظ السئ بالطبع..كانت تلقي بالنكات ولكني لم ابتسم لاني كنت افكر في شئ اخر حينها..وكانت كلما مرت من امامي خرجت من الغرفة التي تجمعنا ..ولم ألاحظ ابدا سوء تدبير المواقف التي تجمعنا الا بعد ان رايت منها القسوة بعد اللين والقوة بعد الدلال..

نعم لقد اعجبني تمردها وقوتها ..في نظرتها وملابسها جرأة وتحدي غريب جعلني اختارها "ملهمة العام" بإمتياز..وفي سوء معاملتها ما يثير اعجاب اي رجل يعشق التحدي ..وان يخوض تخوم تلك التجربة مع تمرد إمراة او تكبر إمرأة والفارق كبير..

بدأت في تغيير معاملتي لها ..بدانا الحديث معا وكما يقولون "ما محبة الا بعد عداوة"..نعم انها ملهمتي الجديدة انها "داليا" حبيبتي الجديدة او من سأسميها حبيبتي فلا حب يعلو فوق حب حبيبتي الأولي.

تحدثنا لفترة طويلة وكتبت عنها  خمس وعشرون قصة..حتي استلهمت مني حد الالهام وبدات في البحث عن ملهمة جديدة.. وكان اسمها هادئ ليس بشراستها وعنفوانها..انها "هايدي" الجميلة ..


كانت هايدي تبكي اثناء تصفحها للاوراق حينما فهمت انها لم تكن الملهمة بل انها ستكون الملهمة القادمة..انها احدي ضحايا الورق الابيض ذو القلب الاسود..انها احدي البطلات فقط ولم تكن يوما بطلة هذا القلب وهذا القلم..بكت طويلا وانتحبت ولكنها اكملت القراءة لكلمات هذا الرجل المخادع "خالق الملهمات" :

"رأيت هايدي لأول مرة في "الكافيه" امام ورشة الكتابة ..اتت الي كالصاعقة المتوقعة..كنت اعرف انها ستاتي ..لقد ظنت حقا انها الملهمة رغم اني كنت اكتب دائما عن حبيبتي الاولي وملهمتي الثانية..ولكني قلت لنفسي "ولما لا" ولماذا لا تكون هايدي ملهمتي الجميلة..انا لن احبها ابدا ..انا مجرد خالق للملهمات..انا الذي نزلت الي المواخير وعلب الليل باحثا عن روح الكتابة وجمال العالم..انا الذي منذ فقدت حبيبتي وقفت صارخا وقلت لقلبي "انقذوا السارية..السفينة ستغرق..ان فقدتم الحبيبة لا تفقدوا القلم..احتفظوا بشئ من اثر الحب يبقيكم علي قيد الحياة حتي لو بملهمة مزيفة"

وتوالت الملهمات علي قلبي الحزين..واحدة تأتي بقصة واخري بقصيدة شعر ..ومازالت احاول ان اخلق العديد منهم من تراب الحب وماء العشق..ورفعت كأسي الوهمي وقلت لنفسي "في صحة هايدي ملهمتي الجديدة..وكتبت عنها خمسة عشر قصة وبعض قصائد" ..


صرخت هايدي وحطمت المرأة ومزقت كل اوراقه وقصصه التي كتبها فيها ..عرفت انها ملهمة مزيفة وليست حقيقة..انها مجرد مانيكان يفصل عليها القصص وكلمات الحب ..او مجرد ذكري لحب فقده وبكي عليه ..

استيقظ من نومه وقال لها :هايدي مالك؟ ايه اللي حصل؟

قالت في غضب وهي تصرخ: اطلع برة مش عايزة اشوف وشك ..ملهمتك المزيفة مش كده؟؟ اطلع برة بقولك

قال "في لهجة منكسرة" : انتي قريتي القصص ؟ ليه عملتي كده ؟

قالت: وهي دي مشكلتك دلوقتي اني قريت القصص ولا انك كنت بتحاول تخلقني ؟

قال: انا مش بخلقك انا بخلق منك ملهمة مش انتي كنتي عايزة تكوني ملهمتي في البداية ؟

قالت:  الحب مافيهوش كلمات زي "عايزة" و "ناوية" الحب ما بيتخططش ليه يا استاذ

قال في تعجب واضح : الحب ؟؟ بتقولي الحب ؟؟


لم يعرف ياسين ابدا ان هايدي كانت تحبه حبا حقيقي الا في هذه اللحظة وهو يراها ممتلئة بالدموع وهي تنطق وتردد كلمة "الحب" بارتجافة شفاه ورعشة يديها الضعيفة الرقيقة..كان يعرف انها معجبة به او ان الموضوع مجرد نزوة عابرة ولكن هل وصلت حقا الي درجة الحب ؟؟

قال لها : انا خلقت منك حبيبة بدل الملهمة ؟؟ انا أسف ..أنا بجد أسف

قال جملته الاخيرة وهو يبكي بجوارها وجلسوا علي الارض في مشهد يفيض بالدموع والحزن وهو يتحسس يديها للمرة الاخيرة ويهمس في اذنيها : انا حاسس بيكي..انا عارف كويس الاحساس ده..وانا ضعيف بما فيه الكفاية علي اني احاول اكرره تاني..الحب قتلني قبل كده..ياريت تضحي انتي المرة دي..انا مش عايزه يقتلني تاني..مش هاسمحله يقتلني تاني

خرج ياسين في تلك الليلة في حالة لم يعهدها من قبل ..ولكنه سأل نفسه في حيرة بالغة "هل هو الندم ام الذكري ام الحيرة؟ ما الذي يقتلني من هؤلاء الثلاثة ؟ هل ضعف هايدي امام الحب ذكرني بضعفي القديم امام الحب ؟ هل احببت هايدي حقا بدافع الشفقة ؟؟ ولكن اين محل داليا من الاعراب في حياتي ؟؟ لماذا تقتلني ثلاثة نساء ؟؟ ما الذي فعلته في حياتي ؟؟

وكانت نهاية ياسين في بيت إمرأة تقرأ "التاروت" ..لم يكن يؤمن بهذه الاشياء ولكن الحب وعذابه اضطره للجوء الي الخرافات ..حينما قالت له قارئة التاروت " هتحب جديد والحب ده هيعذبك اكتر بكتير جدا من اي حب عدي عليك..هتدوق عذاب الحب فعلا لانه هيكون حب من طرف واحد وده اصعب انواع الحب "

قال في غضب وهو يهز كتفيها في جنون : حب من طرف واحد حب من طرف عاشر حب من طرف كوني كلها جرايم بإسم الحب..الحب ده قاتل متوحش سفاح..ايوه سفاح

ولأن حياة ياسين لم تكن ابدا طبيعية ..فقد انتحر في بيت قارئة التاروت..القي بنفسه من الدور العاشر في مشهد درامي عابث وسط صرخات لقارئة التاروت.. وحينما تم تفتيش بيته وجدوا عشرات القصص محروقة ..لقد احرقها ياسين ندما علي ما فعله في هايدي..

وبعد عشرات السنين عندما كانت هايدي تحكي لصديقتها علي اخر مكالمة بينهما قالت هايدي في ألم : عارفة ..كانت اصعب لحظة ساعة ما بعتلي الرسالة الاخيرة قبل ما يموت..بعتلي راسلة غريبة جدا وقال فيها :

" لقد احرقت ملهماتي يا هايدي..وقلت للنار كوني بردا وسلاما علي ملهمتي الاخيرة..فأحرقت كل الاوراق..ولم تبقي ملهمة واحدة.."

مذكرات "هايدي سيد عبد الرحمن ابراهيم":

" النهاردة 25-4-2040..

في احتفالية في ورشة الكتابة ..وعازميني عليها..خايفة اروح هناك ..لان روح المكان لسه جوايا..امبارح كاني شفت ياسين..ابني جايب ورق غريب معاه وبيقولي "سمعتي عن التاروت يا ماما ؟ وكأني شفت صورة ياسين علي ضهر ورقة منهم ..ممكن اكون مجنونة..وممكن اكون عاشقة..لكن دي صورة ياسين ..متأكدة انها صورة ياسين ..

No comments: