Sunday, September 1, 2013

طائــرة ورقية علي خــريطة الملائــكة...قصة قصيرة







"نقطة الماء المستمرة تحفر عمق الصخرة"

ابن حزم



أسرة مصرية تقيم في فلسطين..أنا وإبني وزوجتي المعتقلة منذ سنوات وان تسألونني عن سبب اعتقالها  أقول لكم   " وطن مكلوم وضمير عربي مهزوم "..هل يسأل احتلال عن سبب ؟؟ هل يسأل القاتل عن ضميره ؟
لم يبقي لي منذ سنوات الا ابني جاسر بعد غياب زوجتي "دينا" ..كنا اسرة مسلمة وفي نفس الوقت نسكن بجوار كنيسة ولنا عدد من الاصدقاء المسيحيين وكنا نقرأ معهم الانجيل احيانا..


"دينا" كما هو اسم ابنة يعقوب ..كانت تترهبن حواسي كلها أمام نظرتها ..كنت أشعر بقول برنارد شو يدق في قلبي حين قال "هذا هو سحر المرأة الشيطاني انها تجعلك تريد الدمار علي يديها" ..
كنت اشعر انها "ما شاء الله" معلقة علي رقبة ملاك حين قابلتها اول مرة..هي صراع بين منقول الجمال ومعقوله..واحتراق اوراق ابن رشد لاثبات رجوح كفة العقل للتدبر في عينيك ..
ان رأها البعض لم يصدق ملامحها وقال "ان هي الا اساطير الأولين" !!


هي المساحة القاتلة الفاصلة بين صبايا وصبابتي..وبين شجني وسجني ..هي خارطة الحسن التي وضعتها الملائكة للسيطرة علي قلوب العالم
كنت اقول لها :

" دينا..
سأجعل منك خارطة ملائكة..
أسافر فيك الي القاهرة وأعود وأقول  "عينيك هبة الليل"
وأسافر الي ست الدنيا بيروت لأعود منها بالدنيا نفسها
وأسافر في عينيك الي باريس لأعتق روحي في زجاجة ذهبية من خمر حضورك
وأسافر فيكي الي المغرب لأعود مسحورا مقهورا "


أه يا حبيبتي سأحبك خارج قلبي وخارج عقلي وخارج روحي فلن ابقي في مكاني لأعشقك فقط "فلا كرامة لعاشق في وطنه" !
هل أنتي عصفور الجنة الذي ظننته في طفولتي انني لو أذيته سيقودني الي النار ؟
هل انتي الجنة المحترقة أم النار اللطيفة أم مساحات غرام أزلية فيما بينهم تسحق ذراتي ومدارات وجودي !!

أه يا حبيبتي حين اراك كأنني اري حواء تتشكل امامي كما في سفر التكوين "فقال أدم : هذه الأن عظم من عظامي ..ولحم من لحمي..هذه تدعي إمرأة لانها من امرء اخذت"

كأني أصيح فيك كما في نشيد الأنشاد  :

"لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون..
ما اجمل خديك بسموط وعنقك بقلائد..
نصنع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة"


اه يا حبيبتي لم يبقي منك الا ابني "جاسر" الذي أهيم بحبه واري في كل تفاصيله شروع في وجودك يا اخت روحي ..
جاسر الذي يفتقدك كل ساعة وكل لحظة مثل افتقادي لك ..اليوم يا حبيبتي مسابقته الاخيرة في لعبته المفضلة "الطائرات الورقية"..هل تذكرين هذه المسابقة التي يبرع فيها ابننا في كل عام الان وصل لمرحلة تصفيات نهائية وزين طائرته وجهزها وقال ان الفوز سيكون لكي انتي..انه مصمم علي الفوز اليوم من اجلك ..


دخل جاسر بطفولته وبرائته الحاضرة وقال لي : بابا..احنا مش هناخد ماما وننزل مصر..انا مشوفتش مصر من زمان..
احتضنته بلهفة وقلت له : انا لما اشوف امك كأني شوفت جمال وتاريخ مصر نفسي ربنا يجمع شملنا تاني يا جاسر وهيحصل اكيد


جاسر تعود ان يذهب مع اصدقائه الي الكنيسة المجاورة لنا ليدعو لأمه في الكنيسة امام الشموع وهو مسلم وكأنه مثل ابن عربي حين قال :


“لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ .. ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني"


عاد جاسر مرعوبا الي واحتضنني وبكي وكان بكائه غزيرا كالمطر من الخوف وقال :بابا بابا ابعده عني انا مش عارف هو عايز ايه ابعده عني ارجوك..

قلت في فزع : مين يا جاسر قولي مين ؟؟ مين اللي خوفك كده ؟

جاسر : راجل يا بابا بجلابية بيطاردني في كل مكان ويقولي :" قول لأبوك ييجي يتحني بالأربع دروس هيعيش سعيد بعمر مديد.."

انا: مين الراجل ده يا جاسر تعرف شكله ؟

جاسر : يادوب بيقولي الكلام ده ويمشي يا بابا وما بشوفوش الا عند الكنيسة وحواليها


حاولت ان أهدء من روعه وانا ادمع وكم دمعنا في حيتنا ولكن هناك مرات تكون مميزة في حياتك الدمعية واذكر اني دمعت من قلبي في ثلاثة مناسبات حينما قابلت حبيبتي لأول مرة وحينما قرأت في معلقة امرؤ القيس قوله :

أغَـــرَّكِ مِــنِّـي أنَّ حُــبَّــكِ قَـــاتِــلِــي. وأنَّـكِ مَـهْـمَـا تَـأْمُـرِي الـقَـلْبَ يَفْعَـلِ؟
وَمَـا ذَرَفَـتْ عَـيْـنَـاكِ إلاَّ لِـتَـضْـرِبِــي. بِـسَـهْـمَـيْـكِ فِـي أعْـشَـارِ قَـلْـبٍ مُـقَتَّلِ

والمرة الثالثة حينما ضممت جاسر الأن وهو مرتجف خائف حزين مهموم..


ذهبت معه في اليوم التالي الي الكنيسة يدعو ويصلي الي الله وينادي ويقول "يا مريم يا أم النور ..اعطيني امي اعطيك حياتي وروحي..
يا مريم يا أم النور ..دليني الي طريق نورها بنورك ووجودها بأبدية وجودك"

ظهر الرجل فجأة ورأني مع جاسر فحاول الهرب مسرعا..جريت ورائه وكانت مطاردة حول اسوار الكتيسة حتي امسكته وقلت في غضب : من انت ايها الجبان ؟؟ هل انت من يخيف ابني ايها الخرف القاسي القلب ؟

قال الرجل ببرود : تعالي اتحني بالدروس الأربعة..دروس هتعيشك سعيد بعمر مديد"

قلت : انت راجل بتخرف ولازم تتعالج مش عارف ازاي سايبينك في الشارع ترعب الناس وتروعهم كده


أشار فجأة الي طائرة جاسر الورقة وهي تحترق بجوار الشموع اثناء دعاء جاسر لأمه وقال : اهااااا الدرس الأول  ..الدرس الأول في النار دي

هرعت مسرعا الي الطائرة احاول اطفائها وسط هلع ابني جاسر الذي ظل يحضر هذه الطائرة للمسابقة لمدة طويلة والان حلمه في المسابقة يحترق امام عينيه بلا جدوي..
احترقت الطائرة بكل جزء فيها وصاح جاسر حزينا : لماذا يا ام النور لماذا يا مريم يا سيدتي ؟؟


ذهبنا الي البيت تحمل قلوبنا الضغينة لهذا الرجل العجوز محاولين الصاق التهمة اليه رغم انه كان بعيدا عن المشهد ولكن قلت في نفسي : ربما هو ساحر مجنون انا اشك في امر هذا الرجل فهو ليس طبيعي ابدا

قال جاسر : بابا انا كده هاخسر المسابقة ؟؟

قلت : ما تخافش احنا بنحاول نعمل اللي علينا ونعمل طيارة بسرعة مش هتكون بنفس الامكانيات بس خلي عندك امل ..ساعات القدر بيهزمنا

جاسر: والقدر يهزمنا ليه هو مش موجود عشاننا اصلا عشان يكون قدرنا لينا وبس ؟

قلت وانا اتذكر دينا : او عشان يكون قدرنا "دينا" وبس

نظرت من الشباك وجدت الرجل يجلس امام بيتنا في الاسفل وينظر الي بتمعن ويحدق في وجهي ويقول :الدرس الثاني..اه واه من الدرس الثاني



في اليوم التالي بدات المسابقة خرجت جميع الجنسيات الي سطح العمارة الذي تنطلق منه المسابقة ..شباب من فلسطين ولبنان والاردن ومصر وجميع الجنسيات العربية..وانطلقت اشارة البدء وارتفعت الطائرات في الهواء ترفرف وترفع علم كل بلد وكانت طائرتنا ضعيفة تتاخر في الترتيب كلما اقتربت  حتي انتهت المسابقة وحصلنا علي المركز السابع وظل جاسر حزينا طوال اليوم وهو لم يتعود الا علي المركز الأول في هذه المسابقة..

وعلي حد تعبير نجيب محفوظ في قصصه اشعر اني الان "أذهب الي موطن الحقيقة الباكية" ..حزين علي ابني وحزين علي فراق زوجتي ولم يجتمع الشتيتان بل افترقوا داخلي كل منهم يقطع في نياطه ..

ذهبنا الي الكنيسة مرة اخري..مازلنا لم ننكسر او لم ينكسر الايمان فينا بمعجزات مريم ..وظللت اصرخ امام الشموع وتأرجح ظلال هيبتها علي معالم وجهي في ظلام خفيف وقلت :

" يا مريم يا أم النور ..أنيري لي طريقي ..أنيري بقداستك شموع روحي لأنير طريق دينا..
يا مريم العذراء يا من وهبك الله عذرية الجسد وافضتي علي الدنيا بعذرية الروح والحب...كما احترقت طائرة ابني واحترق قلبي ..احرقي قلوب الاعداء واعيدي لي زوجتي سالمة..
يا مريم..يا مريم.."

ظللت ادعو طوال اليوم الي ان ظهر القس وقال لي : يا ابني انت تعبت نفسك النهاردة اكيد الرب هيحقق حلمك بس اصبر تنول..الله محبة يا ابني"

خرجت من الكنيسة الي المسجد ودعوت الله وعدت الي الكنيسة وهكذا ظللت ادعو الله في كل مكان وفي كل مناسبة..


وفي احد الايام بعد حوالي يومين من خسارة المسابقة سمعت طرقا علي الباب قمت لأفتح وتفاجأت بالرجل العجوز وفقدت اعصابي وامسكته من ياقة الجلباب وقلت في غضب : وكمان جاي لحد هنا يا حيوان يا نجس !! انت السبب بوشك النحس لما خلتنا نخسر المسابقة واتحرقت الطيارة ..

نظر الي الرجب بصبر يصل لدرجة البرود وقال : الدرس الثالث والرابع ع الباب

قلت : انت لسه هتمثل عليا الجنون؟؟انت عايز ايه مني يا اخي دمرت حياتي منك لله


وفجاة تدخل دينا بعد الافراج عن بعض الاسري في السجون بعد سنوات فراق ..وقفت مصعوقا تسرح عيوني في تفاصيلها الذائبة في نفسي بالفطرة وكأني أستعيد فهمي لكياني ..

احتضنتها كما لم احتضنها من قبل بطريقة صوفي يحضن اخر نهر من النور امامه قبل فراقه..

نظرت الي عيني وبكت وقالت : وحشتني

قلت دامعا : انا لو مت قدامك دلوقتي اموت شهيد اللحظة..ايوه العشاق شهداء لحظتهم

قال الرجل الذي تركته بجواري : الدرس الثالث والرابع


قلت له وانا امسح دموعي : بص يا شيخ انا اسف اني اتعصبت عليك بس انت وشك طلع حلو طالما رجعت ليا مراتي انا اعملك اللي انت عايزه..

الشيخ: يبقي اسمع مني الاربع دروس

انا: دروس ايه يا شيخ اللي انت عايز تقولهم من ساعة ما قابلتك


الشيخ : الدرس الأول حين احرقت باهمالك طائرتك الورقية..
تواكلت علي الدعاء وظننت انك في مكان مقدس لن تخسر شيئا مع انك في قلبك المقدس خسرت كل شئ من قبل
الله يقول لكم ادعوه وتمنوا امنياتكم واشربوا من نور جلالته ولكن لا تخسروا نور انفسكم واحذروا من تصاريف القدر..

انا: والدرس الثاني يا شيخ

الشيخ : حينما بكيت مع ابنك طيلة ليلة المسابقة وضيعت وقتك في البكاء وكان هذا الوقت كفيلا ان تصنع طائرة عظيمة تكسب بها المسابقة..
الدموع يا بني تأخذ ولا تعيد..تضيع العمر ولا تضيف اليه الا قطرات يأس..
احزنوا فإن في الأحزان كما في الفرح بركة..ولكن لا تجعلوا من حزنكم فارسا يهزم فارس الفرح فيكم..
الله هو الأمل لقد خلق الملائكة بيضاء ولم يخلقها بأجنحة سوداء لأن الله يحب الأمل..ويحب ان يري فيكم الأمل..الله هو الحياة والأمل..
اجعلوا احلامكم كما الطائرة الورقية وايمانكم الرياح التي تحملها عاليا في السماء..

دينا : رائع يا شيخنا والدرس الثالث ؟

الشيخ : انتي يا بنيتي الدرسين الثالث والرابع

دينا : أنا ؟

الشيخ : لقد قلت لك حين حضرت ان معي الدرسين الثالث والرابع وبعدها دخلت زوجتك..
ان الدرس الثالث ان الله يتجدد داخلكم كما الإيمان..
يجدد داخلكم الامنيات والأحلام كما تجددون الطلب والرجاء..
حرمك من امنيتك الصغيرة واعطاك امنيتك الكبيرة..
الله والقدر شركاء في حرمانكم من احلامكم وشركاء في ان ان يجعلكم تؤمنوا بالحلم كما تؤمنوا بالله..

اما الدرس الرابع فهو..حواء..
اعرف يا بني انها دائما..حواء..اغلي واحلي ما ترنو اليه النفس ويلتقي عنده الحاضر والمستقبل والأمس..


اعترفت له بجميله وحضنته وعشت سعيدا مع زوجتي وجاء ابني جاسر من المدرسة فرحا سعيدا وحضن امه وبكوا طويلا وعشنا من بعد الدموع اسرة سعيدة متماسكة لا يفك رباطها شر ولا غدر..





وتوتة توتة فرغت الحدوتة..
هكذا يظن القارئ الأن اني اسخر منه او استهين به بسبب هذه النهاية..
ولكن بالله عليك هل تريد حقا النهاية السعيدة التقليدية الرتيبة المملة..؟؟

لعلمك يا صديقي..
انا لم اذهب الي فلسطين
ولم اتزوج دينا
ولم انجب جاسر وليس لي ابناء اصلا
ربما تكون الحقيقة هي هذا الشيخ الحكيم وما قاله فقط ؟
ربما..


شخصيات بالونات بالونات افرقعها في الهواء وعلي اجندة كلماتي..
ارمي القلم واستعيد فنجان القهوة..
وافتح اغنية تناقضي وجنوني..
واسمع اغنية لمريم صالح "انا مش بغني" وانا أتأمل في الفنجان ..وتظل الاغنية بكلماتها تقول :

"انا مش بغني انا مش بقول..
انا مش بانام ..انا مش بقوم..
انا بالاخص وع العموم انا ليا حاجة وكل يوم
انا بيت في بيت انا رص رص
انا دوشة
انا دوشة دوشة انا هس هس انا كله
انا كله كله انا نص نص
انا عو عو انا ياما ياما
انا حق
انا حق حق انا خم خم انا اعمي
انا اعمي اعمي انا بص بص
انا عندي عندي هناك هناك
انا جرح جرح علاج علاج انا عيشة
انا عيشة عيشة وعيشة عيشة هلاك"


ايه اللي انت عملته في القصة ده ??دي كانت ماشية زي الفل ..
انظر الي القلم بسخرية واقول :

طززززز


أرأيتم كيف يعطي الكاتب احيانا قصة عن الأمل في لحظات يأس وذكريات حزينة ؟؟
الكتابة حالة اعياء صاخب تنتاب صاحبها وما ان ينتهي من ما يكتبه لا يريد ان يعدل سطرا حتي ولو كان محض جنون..
اعذروني ان ازعجتكم بالجنون
واسعدوا ان امدتكم القصة في نصفها الاول بسيل من الحلم والأمل..
نحن نعيش للحلم والأمل..رغم لحظات اليأس العابرة..!

1 comment:

Anonymous said...

روعة