Saturday, February 16, 2013

وتر عم أيوب..قصة قصيرة





" إن أنات البشر من قديم تتدفق في نهر الحسرات بين الكواكب"

نجيب محفوظ "ليالي ألف ليلة"




في إحدي العمارات القديمة في "الدقي" يقطن "سالم " وحيدا في الدور الرابع..كان شابا مهندما واسع الأفق ليس بالنحيل ولا بالسمين طيب المعشر لا تسمع له جلبة ولا يشتكي منه أحد من سكان العمارة كما اعتادوا ان يشتكوا من احد السكان في الدور الثالث وهو "عم أيوب".

نفس الكابوس..نفس الكابوس ولا أستطيع النوم بسبب هذه الضوضاء وهذا المجنون..
قالها سالم لنفسه بعد أن استيقظ بعصبية ورفع الغطاء من علي جسده بحدة كمن يرفع الكفن بسرعة عن وجه من يحب وجري الي باب الشقة ونادي بواب العمارة في غضب :

"انت يا بدوي زفت..انت فين..ايه اللي بيحصل في العمارة ده"

لم يجبه بدوي بالطبع لأنه كان يغط في نوم اشبه بنوم الفيلة مما اضطر سالم الي النزول بنفسه الي شقة الدور الثالث وكان أول لقاء بعم أيوب..وهو رجل في اواخر السبعينات غائر العينين مجعد التفاصيل كأن الحزن في خطوط وجهه قد وصل لسلطانه وجاهه..فتح الباب متراخيا ببطئ شديد كانه طالب ايقظوه للذهاب الي المدرسة في ملل وقال : في ايه ؟

سالم "محتدا" : في ايه ؟ الساعة 3 الفجر يا استاذ وانت قاعد بتعزف بالعود بتاعك وانا فوقك ومش عارف انام

أيوب: انت الساكن الجديد ؟

سالم : من حظي يا سيدي

أيوب : طيب بلاش تغضب أرجوك

سالم: يا سيدي انا مش غضبان لكن ياريت تخلي العزف للصبح واحنا في الشغل والجو يبقي فاضي ليك واعمل اللي انت عايزه

أثناء حديث سالم مع أيوب استرعي انتباهه الأغنية الغريبة التي يسمعها أيوب فهي لم تكن من اغنيات جيله الذين يفضلون سماع عبد الوهاب او نجاة وغيرهم في هذا السن ولكنه كان يسمع بعض الكلمات في الأغنية بلهجة لبنانية تقول :

" يا هالكدبة اللي عم تسكني اطلعي مني..
يا هاللعبة اللي عم تكسرني ابعدي عني..
وقف في ما في شئ اسمعلك
بحب وما بدي ارجعلك..
ما فيا..انت قلبي..انا قلبي..قتله الزمان
قتله الزمان..
قتله الزمان"


تعجب سالم من محاولة تقلد عم ايوب لدور احد افراد الأوركسترا في عزف هذا اللحن علي هذه الكلمات الحزينة ولكن كل ما كان يهمه في تلك الليلة ان ينام هانئا برغم انه لم يستطيع النوم وتجافي عن مضجعه محاولا فهم ما يدور في عقل عم أيوب هذا السر الغامض في العمارة القديمة كما ملامحه..

في صباح اليوم الثاني لسالم في العمارة :

سالم : ايه يا بدوي ؟ كنت فين ناديتك امبارح ميت مرة

بدوي : خير يا سالم بيه في حاجة حصلت ؟ مال وشك مصفر كده ؟

سالم : ايه ؟ لا ابدا ما نمتش كويس

بدوي: يبقي اكيد عم ايوب

سالم : عليك نور ..عم ايوب..ايه بقي حكاية الراجل ده بالظبط..عايزك تحكيلي كل حاجة..


لم يذهب سالم الي عمله في هذا اليوم مهتما بتفاصيل حكاية عم أيوب التي حكاها له بدوي في اكثر من ساعتين منذ ان سكن في هذه العمارة وحكي له حكايته مع الوتر والعود وكيف اصبحوا ملجأ لدموعه يحاول ان يلطف بهم صروف الدهر وعواديه..

سالم : لا حول الله..يعني بنته هجرته عشان تكمل تعليمها برة وتتعلم الموسيقي ؟

بدوي: ايوه يا بيه..اداها المال واداها كل حاجة وفي الاخر سابته وحيد وراحت تتعلم في بلاد برة الموسيقي ومن يومها وهو بيعزف واشتري عود وبيجرب حظه

سالم : يعني هو بينتقم من الوتر وبيعزف عليه بجنون كل ليلة..او بيشم فيه ريحة بنته اللي خطفتها الموسيقي منه

بدوي : يعني ايه يا بيه ؟

سالم : ولا حاجة يا عم بدوي حساب الحاجة اللي اشترتهالي كام ؟


خرج سالم دامع العينين يردد مع نفسه مقولة جبران في "أرباب الأرض" :

"لو كنت أملك الموت ما رضيت الحياة
فعبء الدهور يثقل كاهلي
وولولة البحار التي لا تنقطع تزعج غفوتي
لو انني تحللت من غاية البدائية
وتلاشيت كشعاع الشمس المبدد"


وفي هذه الليلة ظل سالم مستيقظا ينتظر صوت الوتر او الاغنية الحزينة التي لا يعرف من يغنيها تحديدا الا انه صوت نسائي رقيق وعذب كأنه ينتظر صيده الثمين..صيد يروي أشجانه وتظمأ له امانيه من جديد..

وفجأة يسمع الأغنية..يرتدي ملابسه سريعا ويذهب الي شقة عم أيوب في نفس الوقت :

عم أيوب : معلش يا ابني انا نسيت اللي وعدتك بيه وعزفت في عز الليل انا اسف

سالم : ولا يهمك يا عم ايوب انا جاي اقعد معاك شوية

أيوب : تقعد معايا انا ؟

سالم : ايوه يا عم ايوب انا جارك والجيران لبعضيها واهو بالمرة اسمع عزفك واعرف مين اللي بتغني دي

أيوب: اتفضل يا ابني

قالها عم ايوب بفرحة عاشق يوم عودة حبيبته من رحلة هجر وكأن الوحدة قد بلغت منه مبلغا عظيما حتي لم يتخيل ان يجلس معه احد السكان ذات يوم..
"ياللوحدة..ألم العاشق..ومأوي الحالم..وقاتلة الضعفاء"

سالم : قوللي بقي مين بتغني ؟

أيوب : دي اسمها ماجدة الرومي ودي اغنية انا بحبها جدا ليها اسمها "انت الماضي"

سالم : وليه الماضي يا عم أيوب..ما تسمتع بالحاضر

أيوب :  لكن انا عندي الماضي والحاضر والمستقبل في حلم واحد..

سالم : بنتك مش كده ؟

أيوب "في فزع" : عرفت منين ؟

سالم : بدوي قاللي الحكاية ..انا أسف اني تطفلت علي حياتك بس كنت متشوق اعرف

أيوب : ولا يهمك يا ابني بدوي اصلا ما بتتبلش في بقه فولة

سالم : لكن انت ما بتحلمش انها هترجع مش حاسس انها هترجعلك في يوم ندمانة علي انها هجرتك

أيوب: شوف يا ابني انا من كتر الحلم اتخدرت بالموسيقي وبالألحان..هأقولك حاجة غريبة..عارف المورفين ؟

سالم : اه عارفه

أيوب: المورفين ده سموه علي اسم "مورفيوس" اله الأحلام عند اليونان..وكأنهم ربطوا بين الحلم وتخدير الحياة..انا معدتش بصدق حاجة انا بخدر حياتي بالموسيقي ومش عايز أحلم..
لكن حتي في محاولة تخديري لنفسي بشئ من ريحتها برضه بحلم بيها يا ابني..برضه بحلم بيها..

سالم "يدمع" : اعزف يا عم ايوب..اعزف وخرج همومك..انت بعيد نفس الحتة في الأغنية..ليه مش بتكملها يا عم أيوب ..

أيوب : شوف يا ابني في يوم من الأيام هتكمل لوحدها اوعدني انك ما تكملش الاغنية دي الا في لحظة تكون مضطر تكملها

لم يفهم سالم تحديدا ما يقصده عم أيوب ولكنه وعده بفعل ما طلبه..

سالم : الحمل شديد عليك يا عم أيوب والحزن علاجه بالحلم والأمل

أيوب : ديل كارنيجي عمل كتاب دع القلق وابدا الحياة..لكن الحزن قهره وانتحر
همنجواي قال "الانسان يمكن هزيمته ولكن لا يمكن قهره" لكن الحزن قهره وانتحر
والامثلة كتير يا ابني من اللي قهرهم الحزن..لكن انا بإيماني بحاول ما اني ما اكونش راجل مقهور او ده اللي علمهولي الوتر

سالم : علمك ايه الوتر يا عم ايوب

أيوب : اني طول ما انا مشدود وصالب عودي زي الوتر هأعزف احلي لحن في حياتي
مشدود بالأمل والعزيمة وبالحلم

سالم : ربنا معاك يا عم أيوب وينولك اللي في بالك..


سافر سالم في بعثة الي الخارج ولم يعد الا بعد خمس سنوات تقريبا تغير فيهم كل شئ :

سالم : يا بدوي يا بدوي

حمدان : بدوي مين يا استاذ ..ااه تكونش تقصد البواب القديم ؟ ده مشي من سنة كده وانا جيت بداله هو حضرتك ساكن هنا ؟

سالم : اه انا ساكن في شقة الدور الرابع المقفولة

حمدان : اه يا مرحب يا مرحب ده بدوي اما مشي سابلك جواب وقالي امانة اما تيجي اديهولك ده انا عاينه عندي امانة من ساعتها


تعجب سالم من رسالة تركها له بدوي وفتحها فجاة ليجد نصها ما يلي :

"أستاذ سالم..
والله العمارة ماليها طلة من غيرك ..لكن عايز اقولك خبر ان عم أيوب انتحر..
انا اسف اني ابلغك الخبر الوحش ده لكن انا عارف انك صاحبته بقالك فترة ومهتم بأخباره..
انا زعلت قوي عليه وكل السكان وكانت ليلة حزينة جدا ربنا ما يكتبها علي حد"
وكمان سايبلك جواب لأن انت الوحيد اللي كنت تعرفه وليك علاقة بيه في اواخر ايامه
سيبتهولك تحت عتبة بابك من جوة ياريت تشوفه"

بدوي



هرول سالم متحديا ثقل قدميه من تخدير الحزن او مورفين الحزن في لغة عم ايوب ونظر سريعا الي عتبة الباب والتقط الخطاب وقرأ فيه :

"عزيزي الأستاذ سالم..

انت كنت صاحبي الوحيد في محنتي الايام اللي فاتت ..
جميلة الصداقة ..لكن الأصعب منها الهجر والحرمان والشفقة علي النفس..
جميلة الموسيقي..لكن الأصعب منها الجلد بالوتر..
جميلة الحياة..لكن الصعب هو انك تعيشها مقهور..

خليك عند وعدك..ما تكملش الاغنية الا لما بنتي ترجع..وهتفهم ليه..
خليك عند أول حتة اللي كنت طور عمري بعيدها لكن ما تكملش اغنية ماجدة الرومي الا لما بنتي ترجع في يوم ما..اكيد هاترجع..
الندم رفيق حياة..مش مجرد لحظة..

صديقك / أيوب




لم يتمالك نفسه سالم من الحزن وصرخ بصرخة مدوية : عم أيوووووووووووووب


كان هذا اليوم هو من أكثر الأيام حزنا في تاريخ سالم ولم ينساه الي يومنا هذا..
في هذ اليوم تحديدا في عام 2013..
اصبح شعر سالم مائل الي اللون الأبيض قليلا..
كان يتطلع الي احدي صفحات كتاب الي ان قاطعه صوت..

"الشنط دي في الدور الثالث يا عم حمدان"

كانت المفاجأة ..عادت ابنة عم أيوب بعد سنوات ..صرخت نادمة..
هرولت الي الشقة تصرخ .."افتح يا بابا..انا مش عارفة عملت كده ازاي..انا كنت فين..كان فين قلبي يومها..
انا عرفت الحقيقة يا بابا..
انت اهم حاجة في حياتي..افتحلي انا اسفة.."


سند سالم يداه الي الجدار في شفقة علي ايوب وابنته وعلي اللحن والوتر..
في هذه اللحظة الحزينة كان لزاما عليه ان يكمل اللحن..
جري سريعا ليتذكر اسم الأغنية..وجدها ..انها اغنية ماجدة الرومي "انت الماضي"

فتحها سريعا وسمع اول مقطع الذي كان يسمعه مع عم ايوب ..ولكن اشتاق لسماع المقطع الجديد الذي لم يسمعه من قبل ووعد ايوب ان يسمعه في وقته


لم يشعر سالم الا انه في وسط رمال متحركة عندما سمع المقطع يقول بصوت حزين :

"يمكن ناطر قلك اهلا بعد غياب
وبكلمة حلوة شرعلك ها الابواب..
والغيلك عمري المجروح
من حبسه صرخلك روح
بس لو تعرف شي غيرني هالعذااااب
كنت وين..كنت وين
لما دموعي غرقت فيها
وجعني جنون لياليها"


نزل سريعا الي الدور الثالث امام الشقة سقطت الابنة باكية ضمها سالم وقال لها في هدوء "انتي اكتمال اللحن..ابكي لعل الدموع تطهر الوتر"


ولا نستطيع ان نقدر حقا كم هو مشتاق الأن سالم الي ايوب صديقه القديم..لان سالم في نفسه..وفي سنوات بعثته..عشق..وانتهت قصته..
فهو الأن جدير جدا ان يعرف ما معني لحن غير مكتمل..
ما معني ان تكون صلبا كالوتر ولكن ينتهي بك اللحن الي غيبوبة أغنية حزينة..
ياللحزن..انه ليس الرغبة في الموت..ولكنه موت كل رغبة..

وحشتني يا عم أيوب..وحشني الوتر..

1 comment:

Anonymous said...

رائع بجد..قصة فيها ابداع وحزن..دام ابداعك