لم يسبق تلك الليلة احساسا بالحرية..في تلك الليلة بالذات تنفس الهواء البشر مثلما تنفس البشر الهواء ..وتنفستهم جميعا روح الحرية وروح الوطن
كانت "داليا" فتاة عشرينية ليس لها سابق خبرة في الحياة السياسة ولكنها تؤمن ان الله خلقنا كي نبحث عن حريتنا اينما كانت وان فاقد حريته فاقد كبريائه وفاقد عمره بأكمله..
لم تكن تظن ابدا ان الارض في تلك الليلة حبلي بالمفاجأت وعطشانة جدا للعب بمقدرات البشر..لم تكن تظن أن علامات قيامة وطن وعلامات قيامة قلب قد قامت في تلك الليلة بالفعل كانت قصيرة ذات عيون خضراء مستديرة القوام ذات شعر كستنائي قصير كان القاصي والداني منها يجدها قرب كتفه تقريبا ..ترتدي ثياب فتاة مراهقة صغيرة بالنسبة لسنها قليلا..
في تلك الليلة عندما قابلت "عادل" لأول مرة ..لم تكن تعرف ان القدر كان ينظر خلسة من العين السرية لخانة حياتها..كانت تعرف ان الحب مقدر..ولكن لم تظن انه فعل مدبر !
عادل كان من شباب الحركات السياسية يرتدي نظارة ملونة طويل القامة ذو شعر مجعد محني الضهر قليلا ولكنه صالب عود الكرامة والرفعة لبلده..
في اول لقاء بينهما وسط المظاهرات الحاشدة كانت نظرات العيون بينهما تجمع علي كلمتين فقط "حب" و "مصر" ..كأن شعارات الحرية التي كانت تتردد تسمع صداها في عيون عادل وداليا في نفس الوقت تتلون من الوان الطيف وتسبح في قلوبهما فكرة العدالة والمساواة ولا تنسي نصيبك من "الحب "..
وفي حوار دار بينهما قبل ان يسدل الليل ستاره :
عادل : انا بكون سعيد قوي وانا معاكي بجد رغم اني معرفكيش من زمان بس حاسس بكده
داليا: وانا كمان يا عادل ان شاء الله حلمنا هيتحقق وهنحرر الارض دي وهنملا الارض دي حرية وسعادة وعزة
عادل: ده حلمي وحلم كل مصري..زي ما انتي بقيتي حلمي كمان
نظرت داليا الي الارض خجلا.كانت تشعر بما في نفس عادل من مشاعر تجاهها لم تتيقن منها الا في تلك الليلة وخصوصا في الساعات المتأخرة منها قرب الفجر ..كانت داليا تملك قطع من "الدانتيل" تكتب به اسم "مصر" علي الخيمة التي صنعوها الشباب ليبيتوا ليلتهم..وكانت تؤمن جدا بفلسفة "الطبشور" ..نعم "فلسفة الطبشور..ما ترسمه علي الارض تراه وتحلم به وتتمناه..
سهرت ترسم عادل علي الارض في ركن خاص وتزين الصورة بالدانتيل لعله يراها في الصباح كانت المفاجأة التي تحضرها له سرعان ما انتهت نهاية مفزعة..
أصوات تتعالي من كل حدب وصوب..بشر يخرجون كأنهم سكاري من علب الليل وزجاجات الويسكي بلا ضمير ولا انسانيات..كأنهم الأبالسة الذين فروا من سلاسل الشيطان الاعظم تمردا وغضبا..لم تجد داليا الا زجاجات الملتوف في كل مكان تحرق وتأكل الاخضر واليابس..لم تتهاوي الشجاعة في داخلها مثلما تهاوت خيمة من الخيم احتراقا وظلما..
سقطت زجاجة علي الارض بجوار الصورة التي رسمتها لعادل واحترق الدانتيل الابيض وكأن الطبشور يحترق والصورة تنتهي وكأنها تغرق في ظلمات ليل ليس كمثله ليل..
شعرت وكأنها مدمنة الوطن الأولي وكأنها في اعراض الوطن الانسحابية..كانت عيناها مليئة بالضراوة كوجه من وجوه ابطال القصص القصيرة..خدودها النافرة غضبا وعيناها الجاحظتان وكأنها تميز من الغيظ..جرت مسرعة الي بعض الطوب الملقي علي الارض والقتها بشدة وعنف علي "البلطجية" الذين خرجوا من معتقلات ابليس ولم يعودوا الي سيدهم..
القت عليهم الحجارة وقالت "كلاااااب جبنااااااء" ..كان صوتها يهز جدار كل بيت في التحرير حتي وصل الي عادل الذي كان يدافع عن حلمهما وحلم مصر في الصفوف الامامية للمقاومة..وحينما نظر الي صوت داليا كانت الرحمة غائبة في تلك اللحظة..كانت في غفوة قصيرة ليخرج عنفوان الظلم من غيبوبته في هذا المكان المقدس..سقطت علي رأس عادل زجاجة من تلك الزجاجات المشتعلة والقته علي الارض..
صرخت داليا وجرت بسرعة رغبة طفلة في حلوي يوم العيد وبنفس اللهفة ..جرت اليه وامسكت يديه "
داليا: قوم يا عادل هتتعالج وهتخف قوم معايا في مركز علاج ورا تعالي معايا بسرعة
عادل: داليا..مش مهم انا ..انتي اجمل حاجة حصلتلي في حياتي ..وعايز مصر تبقي اجمل حاجة تحصل في الحياة كلها..مصر يا داليا امانة بين اديكوا..
داليا: انت هتحررها معانا يا عادل ..قوم يا عادل مش هاعيش من غيرك ومش هنشوف نور الحرية من غير ما اشوفها من عنيك..
عادل: المهم مصر يا داليا..انتوا الاحرار..انا مجرد شهيد لبلدي عشان بلدي تنطق الشهادة من جديد
بهذه الكلمات التي انهي بها عادل حياته صرخت داليا صرخة مدوية ربما انزعج لها بعض ملائكة السماء المترقبة للحدث..وربما طربوا لها شجنا..
وكأن حلم الطبشور وحلم الدانتيل كان محقا..حين احترق الدانتيل واحترقت صورة الطبشور علي الارض مات عادل..استشهد عادل في وقت احترق حلم الطبشور والدانتيل..
ولهذا كانت داليا مؤمنة تماما بأحلام وتنبؤات الطبشور..
لم تجري ولم تقاوم العدو والبلطجية مرة اخري بل وجدها الجميع تجري في مفاجأة غريبة في الاتجاه المعاكس تماما وترسم بطبشورها صورة غريبة..
في وقت المقاومة جلست داليا ترسم بهستيريا صورة "الرئيس"..ولكن عجبا لماذا ؟
رسمت صورته علي الارض ووقفت منتظرة سقوط الملتوف علي وجهه لعل النبؤة الجديدة تتحقق..لعل حلم عادل يتحقق وينتهي الكابوس ويسقط فرعون..
وظلت تصيح للعدو "انا هناااااا يا جبنااااء" وتصيح باعلي صوت حتي سقطت زجاجة ملتوف بالقرب منها فعلا وعلي الصورة تقريبا واحترق الطبشور الذي يحمل وجه الرئيس كما احترق طبشور عادل..
ابتسمت داليا وقالت "الحمد لله سيتحقق حلم مصر" ..كانت مؤمنة ايمانا عجيبا بلا اسبابا مقنعة بان الطبشور يصنع الاحلام للاطفال والكبار ..الطبشور يصنع المعجزات والاحلام ايضا ..
وسحبت قطعة دانتيل محترقة من اثر عادل وقبلتها كانها تجد فيها رائحة عادل وطعم حرية مصر..
وكان الدانتيل يترنح ما بين حرية مهداة وحياة مسلوبة وقصة حب لم تكتمل كحلم عشاق..
وانتصر الشباب في ميدان التحرير وانتصرت داليا وعاشت واهدوا لمصر الحرية المفقودة
خرجت داليا بنصف قلب..فقدت نصف قلب لعادل وامتلكت نصف قلب للحرية ..حرية مصر الغالية..
وانسحب الناس من المكان تدريجيا بعد ان سقط فرعون وانتهت الحكاية ولكن بقيت قطعة دانتيل بلون الحرية وكأنها شاهدة علي الحدث..
ولم ينسحب الدانتيل..ولم تنسحب بقايا الطبشور..
ولم تنسحب الاحلام من مدامع العيون ومقل البشر..
ولم تنسحب مصر ابدا..بل بقيت ساهرة حالمة..تستنشق الحرية لحنا جميلا وشجنا أصيلا وخمرا جميلا..
جميلة انتي يا حرية..جميلة انتي يا مصر..
جميلة انتي ..حتي مطلع الفجر..جميلة انتي كليلة القدر..وكان تلك الليلة..ليلة قدر مصر..
الله يا حرية الله يا حرية..
1 comment:
ماشاء الله بجد رووووعة
Post a Comment